الإعلام ضابط مخابرات المشاعر



“طفلة من إدلب تحمل رضيعًا تنفس غاز الكلور قبل يومين، وتضع له كمامة الأوكسجين”. صورة تمرّ كما يمر غيرها من الصور، على الوكالات الإعلامية والقنوات الإخبارية والمواقع المحلية السورية.

“صوت رجل سوري باكٍ، يصرخ بعجز ويحمل طفلًا في محاولة لإيصاله إلى من يمكن أن ينقذه من الموت المحتم من جراء استنشاقه الكلور في إدلب”. أيضًا هي صورة تمرّ كما يمر غيرها من الصور، على الوكالات الإعلامية والقنوات الإخبارية والمواقع المحلية السورية.

فيديو لقيادي من (قسد) ينتشر على شبكات التواصل الاجتماعي يظهر فيه هذا القيادي “زاهد حمد العبد الله”، وهو يعدم رجلًا في ريف دير الزور برشاش ثقيل، بطريقة أقل ما يمكن وصفها بأنها وحشية ومُهينة للشعور الإنساني الطبيعي، ويصمت الكثيرون أمام هذا الفيديو الوحشي، ويصمت الكثيرون أيضًا على الانتهاكات شبه اليومية التي ترتكبها عناصر (قسد) بحق مدنيي مدينة دير الزور وريفها، على الرغم من توثيق هذه الانتهاكات ونشرها، وتتحول التوثيقات إلى همسات خجولة على بعض المواقع السورية المعارضة.

يقفز ترامب رئيس الولايات المتحدة الأميركية إلى الواجهة، يهدد ويتوعد نظام الأسد، ويلمح إلى إمكانية ضربه عسكريًا، بعد أن ضرب الأخير إدلب بالكلور، يتضاحك العالم من تغريدات ترامب، وتنتهي النكتة.

الخارجية الأميركية تقلق من “تقارير، عن استخدام حكومة النظام السوري غاز الكلور في محافظة إدلب”، وتقول الخارجية الأميركية إن الحكومة الروسية “لم تف بالتزاماتها”، بحمايتها للحكومة السورية من المحاسبة، تنتهي نكتة الخارجية الأميركية هنا أيضًا.

أين السوريون، ماذا نفعل بعد أن جف البكاء، واستنفدنا طاقاتنا بالشجار وتبادل الشتائم، بعد أن أصبح مصيرنا منذ سبع سنين معلقًا بأصوات توزع شهادات الوطنية والشرف والإيمان، وصكوك الإيمان والكفر، وتضع المعايير المتوحشة للمشاعر الإنسانية، وتلزمنا بالتعاطف مع “بارين كوباني”، لأنها كردية أو ربما لأنها امرأة، بينما نتجاهل أطفال إدلب، لأن سوق “اللايكات” لا يدعم أطفال إدلب، ولكنه يدعم امرأة تم إهانة جثتها، لأنها امرأة فقط، لتظهر فجأة كل عبارات العار التي تظاهرنا بأننا تخطيناها في محنتنا المستمرة منذ سنوات.

مَن نحن اليوم؟ نحن أبطال صور تتبناها وكالات عالمية، نحفظها وننشرها ونتنادى لنضع اسم “سورية” بجانبها؛ لنصل إلى العالم، نفرح يوم تتصدر صورة لنا صفحة وكالة أنباء عالمية، نشعر بالأمل، “إنهم يسمعوننا.. المجتمع الدولي يشعر بنا”، ثم نرى أن الحيتان الدولية تلعب بنا، هذا يريد حربًا خارجية ليداري فساد سلطته، وذاك يريد إثبات أنه رجل القرارات على عكس رئيسه السابق، وأولئك يريدون فقط النجاة بعروشهم، ونحن ما زلنا نسمع ونرى.

نحن العاجزون والمتآمرون على بعضنا اليوم، نتفنن بابتكار الألقاب التي نشعر أنها تصف جزءًا من وحشية طاغية القصر الجمهوري، ونتحايل على جراحنا ببعض السخرية، فيَصل تسجيل من إدلب؛ يصفع قلوبنا، ويعيدنا إلى الواقع. تموت “بارين كوباني”، فيتسابق القاصي والداني إلى نعيها، يقتل قيادي من (قسد) رجلًا من دير الزور فلا يجد من ينعيه، إننا متآمرون على أنفسنا، نجزئ الحقوق ونجتزئها، نحن اليوم بضائع في سوق متوحشة، الإعلام يسيرنا على جراحنا، الفرق أننا ننزف دمًا ودمعًا، وهم يحصدون مالًا وسلطة وشهرة.

نحن العاجزون، نكفر عدة مرات في اليوم، ونستغفر عشرات المرات، نبكي أثناء الصلاة، ونضحك من نكتة تأتينا من مهجري سورية، ونمسك قلوبنا بأيدينا، كلما ضرب مجرم دمشق الكلور على منطقة سورية، وننتظر تهجير ومجازر إدلب بعيون مفتوحة، لا يمكننا أن نغلقها، لأن صوتهم سينهرنا: “استيقظوا، إننا نباد أمام نظر العالم”.

نحن العاجزون، نصدر بيانات، ونتواصل مع منظمات أوروبية؛ لنحصل على تمويل لمؤسساتنا الخلبية، ونتصدر المشهد السياسي بوفد للتفاوض، فتتحول حياتنا إلى الهرولة من طيارة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، ونضحك في سرنا لفوزنا بدعم فصيل أو كيان سياسي، وحصولنا على مقعد بجانب المستفيدين وأعمار بعضنا لم تتخطَّ 26 عامًا.

نحن العاجزون، نعرف اللصوص ولا نعلنهم، ونراقب الوصولي الذي حجز مقعده على المحطات التلفزيونية، ولكننا نضع له “اللايك”، ونشتم المتحدثين باسمنا ونتقرب منهم، ندرك جيدًا أن برامج الحوار هي صراخ وزعيق، لكننا ننتظرها، لكي نشتم المتحاورين. نعلم أن صاحب آلاف “اللايكات” هذا صعد على تكسير سوريتنا، وبيع أحزاننا، والتجارة بشهداء عائلته، لكننا نضع له “اللايك” ونشارك كلامه، بل نخوض معه في الوعيد والترهيب، ثم نحصي شهداءنا بين الابتسامات والبكاء، والجبن والبيانات، والخوف والعجز.

آلامنا ودماؤنا وعجزنا، طوائفنا وعروقنا ومواقفنا وأفكارنا، حتى كلماتنا، صارت سوقًا مربحة للجميع، سواء تكلموا باسمنا أو ضدنا، لقد أصبحوا محترفين، يعلمون كيف يكون عنوان البرنامج أو المقال جذابًا مغريًا، لا يهمهم المستوى الأخلاقي أو الوطني، طالما أننا نتابعهم.

نحن العاجزون، لا نزال ننتظر معجزة إلهية، وندرك أن زمن المعجزات انتهى مع الأنبياء، ولكن العجز لا يترك مساحة لحياتنا إلا في ذلك الوهم “معجزة إلهية في زمن القتل والموت”، أو ساحات (فيسبوك) وبرامج الفضائيات، لعلها تفرغ من غضبنا قليلًا.


هنادي الخطيب


المصدر
جيرون