on
“رندحة” على أبواب الجحيم
من التجني المقصود عند البعض وخاصة ممن يدعون الثقافة، الخلطُ بين المعارضة والثورة، ويتذاكون بتناول المصطلحين، جملة وتعميمًا، منفردين ومجتمعين، فالمعارضة كل المعارضة شر مستطير، والثورة كل الثورة مؤامرة خارجية، أما السلطة كل السلطة فهي حمل وديع! وبذلك يثبتون تواطؤهم مع السلطة “برندحاتهم”، في منعرجات الثورة وتشظي المعارضة، متناسين عن قصد أن استبداد السلطة الطويل لم يترك أي مساحةٍ تذكر للعمل السياسي والثقافي والفكري، وبالتالي لتشكل معارضة موصوفة بخطاب موصوف، مثلما تصدت لثورة الشعب بالحديد والنار، وفبركة المؤامرة والإرهاب، وسوقها إلى مربعها الأمني العسكري، حيث هي فيه الأقوى كما تتصور، لأنها استثمرت في هذا المضمار مليارات الدولارات -سلاحًا وعتادًا ومؤسسات- واشترت مئات آلاف الضمائر، من خلال الفساد والإفساد والمحسوبية، واستغفال آلاف السذج، واستدعاء الأجنبي من دول وميليشيات بحجة المؤامرة، وانخراط شذاذ الآفاق من دول عربية وأجنبية بالعمل العسكري مع مجموعات إرهابية، كان معظم قادتها معتقلين في سجونها، أخرجتهم بالعفوات التي لا تفسير لها سوى إرباك الثورة وأسلمتها؛ لنزع الشرعية الأخلاقية عنها، ووضع المجتمع الدولي أمام خيار وحيد: “إما الاستبداد أو الإرهاب”. وقد يبدو للبعض أن السلطة نجحت في ذلك، لكن من الواضح وغير قابل للجدل، أن الدول تحركها المصالح لا العواطف والمبادئ والأخلاق، والقوى الدولية الفاعلة في المنطقة لها عينٌ على خيرات المنطقة وسوقها، وعين أخرى على الكيان الصهيوني. والتدمير الممنهج للحجر والبشر والبلد والمجتمع والدولة والجيش، في سورية الذي سميته “تدمير الذات”، يحقق ما ترنو إليه كلتا العينين. النتيجة أن المسؤولية الأخلاقية والتاريخية لما آلت إليه البلاد والعباد هي مسؤولية السلطة أولًا، قبل كل شيء، لأن قرار الحل السلمي المجتمعي كان بيدها منذ بدء المشكلة، قبل أن تتخلى عنه للخارج، وكلُّ من يلقيها على معارضة لم تكن متبلورة قبل الثورة، أو على الثورة التي هي حق مشروع للشعوب، في أن تثور من أجل التغيير والتجديد في إدارة حياتها وتحسين شروط هذه الحياة، لا يصدق عليه سوى وصف “تشبيح”، وأخطر أشكال التشبيح للسلطة هو التشبيح الثقافي والفكري.
في المقابل، لا تعفى المعارضة التي تشكلت أو تمأسست بُعيد الثورة من مسؤولياتها، تجاه ما آلت إليه الأمور من تدمير الذات السورية، فهي تجمعت منذ البداية على قاعدة التشرذم، من دون خطاب سياسي موصوف وجامع، كما ساقت نفسها، من حيث تدري أولا تدري، إلى التبعية للخارج والرهان عليه، تحت مسمى “أصدقاء الشعب السوري”، وغطت سياسيًا أسلمة جزء من الثورة ومنهجه “الجهادي”، وانقادت إلى دعوة الخارج للتدخل، فخانها خارجها؛ لأن مصالحه تتحقق بتدمير الذات السورية حفاظًا على أمن “إسرائيل” من جانب الغرب، وإبعاد أسلمة سورية من جانب دول المنطقة والغرب معًا، بينما صدق خارج السلطة لأن مصلحته بهذا التدمير تقضي على أي فرصة لأسلمة البلد، وتحافظ على سلطة مترهلة ضعيفة مسلوبة الإرادة، تحقق له بقاء مصالحه التي استثمر فيها على مدار نصف قرن. وبين هذين الحدين التدميريين للذات السورية الوطنية؛ انزلق كل من النظام والثورة، والسلطة والمعارضة، في منعرجات خطيرة وهدامة، خلال السنوات الخمس الماضية، كان ضحيتها الشعب السوري برمته. لقد وقع أيضًا من يدعون الثقافة ونصرة الثورة في مطب الخلط بين المعارضة والثورة، بالتعميم جملة وتفصيلًا؛ ما جعلهم في وضع يثبتوا فيه تواطؤهم مع السلطة “برندحاتهم”، في منعرجات الثورة ورهاناتهم الخاسرة، ولم يدركوا منذ البداية أن الخارج تحركه مصالحه، لأنه ليس جمعية خيرية، كما لم يدركوا أن الإسلاميين لا يمكن أن يتخلوا عن الحاكمية للشريعة، ولو لبسوا ثوب المدنية والديمقراطية من باب التكتيكات السياسية الوقتية. وبالتالي؛ فإن من يعفي المعارضة السياسية، وعلى وجه الخصوص جزؤها الإسلامي السياسي والعسكري، من المسؤولية؛ لا يصدق عليه أيضًا سوى وصف “تشبيح”، وأخطره التشبيح الثقافي والفكري.
لكن المفارقة العجيبة في هذا الصدد أن شبيحة النظام والسلطة، وشبيحة الثورة والمعارضة، يلتقيان في الخطاب والمنهج، وكلاهما “يرندح” على مقام دوامة العنف والارتهان ذاته، ولا يدعون أي فرصة للحل الوطني على قاعدة سورية لكل السوريين، والتي هي بأمس الحاجة إلى التغيير الديمقراطي الذي من شأنه فتح الأبواب “المغلوقة” والدوائر المحكمة، منذ زمن بعيد. إن السلطة والنظام والمعارضة هم جزء من الشعب، والشعب طوق نجاة وحاضن للسلطة والنظام والمعارضة، في جدليةٍ لا يمكن فصل عراها، فلا سلطة ولا معارضة ولا نظام من دون الشعب، ولا شعب من دون سلطة ونظام ومعارضة، وإلا؛ تحول إلى شرذمة تحكمها شريعة الغاب، وسلطة تتحول إلى عصبة معزولة عن طوقها وحاضنتها وهمها الوحيد أناها الذي يتمحور حوله كل ما عداه، ومعارضة عينها على السلطة فحسب دون أي حساب للشعب.
إن أبسط مقاييس الانتماء إلى الشعب هو مجاهرته بكل ما يجري، من دون أي لبس أو غموض أو تحريف أو تزوير، والاستماع لرأيه والانصياع لإرادته والاعتذار منه عن الأخطاء والكبوات والانزلاقات والانجرافات والسقطات والموبقات. وإذ كنت لا أسمح لنفسي بالنطق باسم شعب، فهذا من المحال، لكن في الوقت نفسه، وربما وجهة نظر، لا أظن أن غالبية الشعب السوري تعارض وقف تدمير الذات ونزيف الدماء، وترجيح لغة العقل على لغة السلاح، والعودة إلى جذور الوطنية السورية، بدل الارتهان للخارج الذي قرر منذ زمن بعيد معادلة “لا غالب ولا مغلوب”، والتي ستفضي إلى تفتيت سورية بين حدّين: حد أدنى هو المحاصصة الطائفية، وحد أعلى هو التقسيم، وما بينهما من سيناريوهات كالفدرالية أو إعادة إنتاج الاستبداد بالسلطة ذاتها أو بسلطة على شاكلتها.. وجميعها ليس في مصلحة الشعب السوري كله، وليس في مصلحة الإقليم، لأنها تبقي الصراع مفتوحًا على احتمالات غير محسوبة، قد تطيل أمده وتدخله في منعرجات وخيمة. إلا أن البيت السوري واسع ورحب بما يكفي ويزيد، لجمع أبنائه وحل خلافاتهم على قاعدة التنوع وحق الاختلاف؛ للوصول إلى تصور جامعٍ، ينهي الكارثة التي يصر البعض على وصفها بالأزمة، وذلك في إطار إعادة بناء الدولة ومؤسساتها ونظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.. بما يضمن مشاركة الجميع تحت سقف القانون والدستور اللذين يكفلان التداول السلمي للسلطة، وفصل السلطات، ودور الرقابة والتفتيش الماليين في الحفاظ على المال العام والملكية الخاصة، وكفالتهما مع مؤسسات الدولة الرسمية حق حرية التعبير، ومساهمة المجتمع المدني في الحياة العامة، وتنظيم الحياة السياسية والحزبية.. وهذا خيار وطني وحيد على جميع السوريين التمسك به، والعمل عليه، وتقديمه على جميع الخيارات المطروحة، وهو يصب في مصلحتهم، وإلا؛ فلن يقبضوا غير الريح، فلا سلطة فوق الشعب ولا معارضة لا تعبر وتدافع عن مصالح الشعب؛ لأن الشعب مصدر كل السلطات والمعارضات في نظام سياسي دستوري يقرره الشعب. وعندما يتحقق الإجماع الوطني على رؤية عصرية لسورية الجديدة، فإن كل أفراد الشعب المنسجمين مع النظام الجديد لا يتوانون عن المشاركة في القضاء على الإرهاب وتنظيف البلد من دنس الأجنبي. إن الشعب السوري بكل تلاوينه يغلب عليه طابع الاعتدال والتسامح والوطنية والتفوق على جراحه، ولولا الاستبداد الطويل والفساد المستفحل والتمييز الحزبي والمناطقي والعرقي والفاقة والعوز والتهميش والإقصاء ومواجهة سلميته بالعنف الشديد؛ لما أنجر جزء منه إلى العنف لمواجهة العنف، وجزء إلى الأعمال الإرهابية التي تتجلى بأبشع أشكال التدمير الذاتي المتبادل، من تدمير المدن والتجمعات السكانية وتهجير للمدنيين وتدمير ممتلكاتهم وقتل واعتقال تعسفي وخطف ورفع نبرة الأحقاد الطائفية. إن كل الأطراف المتقاتلة الداخلية والخارجية مسؤولة عن العنف والإرهاب، وقد شكّل خطابها -خلال السنوات الماضية- تربة خصبة لنمو شتى أنواع الصراع التي حرفت اتجاه الصراع الأساس عن مساره، وهو الصراع السياسي. لذلك آن الأوان لأن يكف شبيحة السلطة، وشبيحة المعارضة، وبخاصة في أوساط “المثقفين”، عن “الرندحة” على مقام دوامة العنف والارتهان التي توغل بالبلاد في مسالك الجحيم، وأن ينظروا نظرة وطنية إلى الداخل، فلا أميركا ولا روسيا ولا تركيا ولا إيران ولا السعودية أو قطر.. أو الجن الأزرق يأخذ بيد السوريين إلى بر الأمان. أمان السوريين ووحدة وطنهم ومستقبل حياتهم وحياة أبنائهم وأحفادهم بأيديهم وحدهم وحصريًا، وسورية وطن للجميع والشعب السوري واحد، لم يفرقه من قبلُ الرومان ولا المغول والتتر ولا العثمانيون ولا الأوربيون.. ولن يستطيع أن يفرّقه الآن كلُّ هؤلاء المتنافسين على قبض زمام البلد؛ إذا تمسّك هو بعروته الوثقى: الوطنية السورية التي قدّمها زعماؤه: يوسف العظمة وسلطان الأطرش وعبد الرحمن الشهبندر وصالح العلي وإبراهيم هنانو وحسن الخراط وشكري القوتلي وخالد العظم وفارس خوري وهاشم الأتاسي، وغيرهم الكثير من الوطنيين السوريين، على أي شيء آخر حتى على أنفسهم.
مهيب صالحة
المصدر
جيرون