كيف يمكن فهم المعارضة السورية؟



يمكن لأي متابع لمواقف المعارضة السياسية الرسمية ملاحظةُ أن هذه المواقف تتأسس، في الأغلب، على الانحيازات السياسية الإقليمية، أي مراعاة سياسات هذه الدولة أو تلك، في أكثر من مسألة، علمًا أن هذه الانحيازات تترسّخ، أو تتعمق، إلى الحد الذي تصبح معه سمةً لازمة للمعارضة، أو تبدو كأنها جزء من طبيعتها.

هذا ما يمكن ملاحظته، مثلًا، من الخطابات السياسية المتعلقة بموضوع اللامركزية، أو الفدرالية؛ إذ يجري اختزال الأمر على أنه “محاولة لتقسيم البلد”، في حين أن أرقى وأقوى البلدان وأكثرها تماسكًا هي ذات نظام فدرالي (الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وألمانيا مثلًا). وفي المقابل، فإن الدولة المركزية هي قرينة النظام الاستبدادي؛ لأنها تقوم على احتكار توزيع الموارد واستثمارها، ومركزة السلطة والقوة. وطبعًا، إن هذا التخوّف غير المشروع، أو المفتعل، من الفدرالية هو نتاج فَهم خاطئ لكيفية التعامل مع المسألة الكردية، إذ لا يجوز وضع هذه المسألة كعائق، أمام شكل من أشكال تنظيم الحكم والبلد، بادعاء أن ذلك يفضي إلى التقسيم، في حين أن البلدان المركزية هي التي تفضي إلى الانفجار أو إلى الانقسام، كما تبيّن التجارب التاريخية، مع العلم أنه يمكن التغلب على هذه التخوفات المزعومة بتأكيد أن الفدرالية تتأسس على البعد الجغرافي، وليس على البعد الإثني أو الطائفي.

ينطبق ذلك، أيضًا، في الحديث عن المسألة الكردية، حيث شهدنا أن المعارضة لم تبذل الجهود المناسبة، لصوغ رؤية بديلة للنظام بشأن حل هذه المسألة، وإنما على العكس من ذلك، فقد جرى تبني أطروحات أو ادعاءات النظام نفسها تقريبًا، في هذا الشأن، مع تأكيدنا أن القوى الكردية المعنية تتحمل مسؤوليتها، أيضًا، عن هذا التشوش في مواقفها، وعن ممالأتها النظام في عديد من المحطات والمناطق، وعن انعدام الثقة بينها وبين قوى المعارضة.

في السياق ذاته، لنأخذ قضية عفرين، إذ كان يمكن للمعارضة أن تجنب هذه المدينة الحرب، تمامًا مثلما فعلَت في تجنيب مدينة إدلب الحرب، وذلك عبر فتح مسار آخر مع تركيا ومع الأكراد؛ لإيجاد مخرج مناسب للطرفين، بدلًا من الذهاب إلى موقف يُضعف المعارضة، ويضعف العلاقة الكردية-العربية. أما كيف يُضعف المعارضة، فهو بإظهارها كتابع ضعيف، أولًا. وثانيًا، افتقادها مكانتها، أو لادعائها، كممثل لكل السوريين ومن ضمنهم الأكراد. ثالثًا، بعدم تمييزها المسألة الكردية في سورية، والنظر إليها كأنها مسألة تركية. رابعًا، في تضعضع صدقيتها في ما تدعيه بمحاربة الإرهاب. هكذا فبينما تشرعن المعارضة قتال قوات (ب ي د)، باعتبارها منظمة إرهابية، فإنها تسكت عن (جبهة النصرة) المسيطرة في إدلب، وهذا موقف ينمّ عن تناقض، وهو استمرار للموقف ذاته الذي سكت عن (جبهة النصرة) طوال السنوات الماضية، رغم عدم اعترافها بالثورة السورية ومقاتلتها الجيش الحر، ورفعها رايات خاصة، وتسليمها مناطق واسعة للنظام، كما حدث مؤخرًا. على ذلك؛ فإذا كان يحق انتقاد قوات (ب ي د) ومناطق الحكم الذاتي التي تعلن عنها، فإنه يحق أيضًا انتقاد (جبهة النصرة) وأخواتها والهيئات الشرعية المنبثقة عنها، والتي أضرت بالثورة ولم تجلب إلا الويلات للسوريين، لا سيما أن هذه الجبهة مصنفة كإرهابية، ولها أجندة مختلفة تمامًا عن أجندة الثورة السورية.

في العام الماضي، انساقت المعارضة وراء مسار أستانا التفاوضي، رغم أنه كان محاولة للالتفاف على مسار جنيف، ورغم أن هذا المسار برعاية روسيا التي تقتل السوريين وتدمّر حيواتهم، وأن إيران طرف أساس فيه، فكيف يستقيم مثل ذلك الأمر في إدراكات المعارضة أو في مواقفها، من دون تفسير ذلك بتأثيرات أو بارتهانات خارجية، علمًا أن الحديث عن ثورة أو معارضة غير الحديث عن دولة، إذ لكلٍّ اعتباراته وأولوياته، وعلمًا أن المعارضة يُفترض بها أن تأخذ مصالح السوريين، قبل أي أحد أو أي شيء آخر؟

عمومًا، فقد امتد هذا الموقف إلى مشاركة بعض فصائل أو شخصيات من المعارضة في مؤتمر سوتشي، أو إبداء البعض التعاطي مع ما يسمى مخرجات هذا المؤتمر! بل إن الأمر وصل إلى حدّ إبداء بعض شخصيات المعارضة اعتراضات على ما يمكن تسميته “خطة طريق” لحل الصراع السوري، وضعت تحت اسم “اللا ورقة”، بالتوافق بين كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والأردن والسعودية. والجدير ذكره هنا أن هذه الخطة تتضمن وضع حد لسياسة “اللف والدوران” في المسارات التفاوضية برمتها، والذهاب إلى نقاش القضايا المتعلقة بحل الصراع السوري مباشرة، وضمن ذلك تغيير النظام، إن باعتماد النظام البرلماني أو المختلط، بدل النظام الرئاسي، كما بالنص على الفصل بين السلطات، وإعادة بناء الجيش والأجهزة الأمنية، ووضعها تحت طائلة القانون، وخارج سلطة الرئيس، وكل ذلك من خلال صوغ دستور جديد، يؤكد على حقوق المواطنة المتساوية، على الديمقراطية وتداول السلطة.

الغريب أن البعض في المعارضة يتمسك بعملية تفاوضية متوهمة، لم ينتج عنها أي شيء منذ سنوات، بل إنه لم يجر خلالها جلسة تفاوضية واحدة، وأن هذا البعض برفضه أو بتشككه بـ “اللا ورقة”، تبعًا لارتهانات إقليمية، لا يقدم أي بديل موضوعي، أو عملي، سوى القول إنه متمسك بالقرار 2254، علمًا أنه لا يمتلك أي ورقة قوة لفرض ما يريده في هذا القرار، كما شهدنا؛ هذا أولًا. ثانيًا، هذا النمط من المعارضة الذي يصر على إقامة حكومة انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، لا يطرح أو لا يشرح لشعبه، كيف سيدير هذه الحكومة، ووفقًا لأي منظور، علمًا أن هذه المعارضة تفتقد بنى أو كيانات سياسية وازنة، وليس لها مواقف واضحة، وهي لم تنجح في تحقيق الإجماع من حولها، وتفتقد حتى آليات عمل تؤكد ذاتها أمام شعبها، كمعارضة تمثلهم وتعبر عنهم، هذا دون أن نتحدث عن الكارثة المتمثلة بكيفية إدارة أغلبية المناطق “المحررة”. ثالثًا، على المعارضة أن تبيّن لذاتها ولشعبها كيف تريد أن تفرض ما تريده حقًا، ليس بمجرد إنشاءات وبيانات، وهي على هذه الدرجة من الضعف والتشتت والارتهان.

الفكرة أن المعارضة معنيّة باستثمار “اللا ورقة” التي تُعدّ أول محاولة تدخّل أميركي مباشر في الصراع السوري، لوضع النظام أمام مسؤولياته، وفي مواجهة النظام الدولي، واعتبار أن صوغ الدستور والانتخابات، وفقًا لمعايير وضمانات دولية، هو المدخل للتغيير السياسي، وهو المسار الذي يمكن الاشتغال عليه، طالما أنها جرّبت طريقَي العمل المسلح والمفاوضة، وطالما أنها لا تستطيع أن تفرض شيئًا مما تريده. “اللا ورقة” ستشكل نقطة إحراج كبيرة لروسيا وللنظام، وليس لدى المعارضة سوى التقاطع معها.


ماجد كيالي


المصدر
جيرون