أفكار حول المبادئ الراسخة في دستور سورية المستقبلي



يبدو أن تحقيق السلام في سورية مهمة صعبة المنال؛ إذ غالبًا ما يكون إحلال السلم أصعب من إعلان الحرب. الأمر الثابت أن النظام السوري متمسك بجميع مفاصل السلطة، ولم يبدِ أدنى استعداد للاستجابة لتطلعات ومطالب السوريين في الحرية والكرامة، وإقامة نظام تعددي وديمقراطي يقوم على التبادل السلمي للسلطة، وصيانة الحقوق والحريات الأساسية لكل السوريين. أما “المعارضة”، فقد ثبت -بلا أدنى شك- أنها مشتتة ومشوشة بكافة أطيافها، ولم ترتقِ بعدُ في أدائها وطروحاتها إلى مستوى الدفاع عن مطالب السوريين وتطلعاتهم، وأثبتت فشلها، حتى الوقت الحالي، في تقديم أي رؤية متكاملة لسورية المستقبلية ونظامها السياسي.

في كل الأحوال، يتعين على السوريين، وتحديدًا أولئك الذي لم يرتكبوا جرائم -سواء أكانوا من أتباع النظام ومناصريه أم من أطياف المعارضة- مواصلة النضال، في سبيل وقف الحرب والإعلان عن مرحلة انتقالية يتخللها وضع دستور لسورية، يعالج أسباب الحرب، ويحصن البلد من النظام الشمولي ومن التفرد بالسلطة، ويرسخ مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويؤسس للعدالة الانتقالية القائمة على مبادئ المصالحة، ومساءلة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ولذلك، هنالك حاجة لإقرار دستور لسورية، يضمن التداول السلمي للسلطة، ويمنع التفرد بها، ويراعي مبدأ سيادة القانون، ويصون كرامة الإنسان والحريات والحقوق الأساسية للجميع دون أي تمييز، لأي سبب كان.

المعروف أن الدستور هو الوثيقة الأساسية التي تحدد شكل وطبيعة نظام الحكم في البلد، وكيفية ممارسة السلطات المختلفة سلطاتها، ويحدد أيضًا الأساس القانوني للاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تقوم عليها السلطة. والدستور هو القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة ونظام الحكم وشكل الحكومة، وينظم السلطات العامة فيها، من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات بين السلطات، وحدود كل سلطة، والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات.

إن مأساة سورية وشعبها باتت تحتم اعتماد دستورٍ، يكفل حماية الحريات الأساسية والحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، الجماعية والفردية، لكل السوريين على قاعدة المساواة بينهم. ولذلك، يفترض تضمين الدستور السوري المستقبلي قواعد، تكفل حق المواطنين في المشاركة الفعالة في الحياة السياسية في البلاد، وتراعي الحقوق والحريات الأساسية، وفي مقدمتها كرامة الإنسان، المساواة أمام القانون، الحق في الحياة، حماية الأمن الشخصي للمواطنين، حظر ممارسات التعذيب أو إساءة المعاملة، حرية المواطنين في الإقامة والتنقل، بما في ذلك الخروج من البلد والعودة إليه بحرية، حرية الرأي والتعبير قولًا وكتابة، حرية الصحافة والطباعة والنشر، الحق في العمل، الحق في التعليم، تأمين الضمانات الاجتماعية للسكان، حظر التمييز، المساواة بين الرجال والنساء، حماية الملكية الخاصة، تنظيم الدولة للملكية العامة بما يصب في خدمة مصالح المواطنين.

يتعين أيضًا انسجام التشريعات الوطنية لسورية المستقبلية، مع المعايير المنصوص عليها في الاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، مما يتطلب إدماج المعايير الدولية لحقوق الإنسان في متن الدستور السوري المستقبلي وسائر التشريعات الوطنية، وفسح المجال في الرقابة الذاتية على تنفيذ التزاماتِ سورية الدولية على صعيد حقوق الإنسان، وتمكين المواطنين من الاستفادة من الوسائل الوطنية لحماية حقوقهم بما يتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وإفساح المجال أمامهم للالتجاء إلى الوسائل الدولية المقررة عن الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان.

كما يفترض تضمين الدستور السوري المستقبلي مبادئ دستورية راسخة، لا يجوز تجاهلها أو إلغاؤها حتى عن طريق التوافق، وبالتالي منع قوى بعينها من الانفراد، بوضع دستور وفق إرادتها وتوجهاتها. ومن هذا المنطلق، فإن المبادئ الدستورية الراسخة هي بمثابة قواعد دستورية يجب صيانتها من الإلغاء، لكن يمكن تعديلها. وتكمن ضرورة وأهمية اعتماد مبادئ دستورية راسخة في قطع الطرق على فئات سياسية في فرض هيمنتها وأيديولوجياتها، وبالتالي التأسيس لنظام سياسي قائم على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. يضاف إلى ذلك الحاجة إلى صياغة أحكام دستورية لمواجهة أي ملامح أو تقاليد قد تتسبب ضررًا للدولة والمجتمع والآخرين. فقد لجأت ألمانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى وضع أسس تمنع احتمال إساءة استخدام قاعدة الأغلبية لفرض سياسات ظالمة ووحشية، كما حدث أيام حكم النازيين، حيث تم تضمين الدستور الألماني الجديد جملة من المبادئ والمعايير “المقدسة” كمبدأ الديمقراطية وفصل السلطات واحترام كرامة الإنسان وحظر التعذيب والمساواة أمام القانون ومنع التمييز.

هنالك من ينظر إلى المبادئ الدستورية الراسخة، بوصفها قواعد تمس قضايا كبرى ومصيرية تتعلق بحقوق ومصالح ومستقبل كل فئات الشعب دون استثناء. ولذلك، يؤيدون إعطاء هذه المبادئ حصانةً استثنائية تجاه التغيير والتعديل، تفوق الحصانة التي تُعطى لغيرها من قواعد الدستور، بحيث يكون تعديلها أو تغييرها أو إيقافها، نتيجة تعديل الدستور أو تغييره أو تعطيله، أمرًا بالغ الصعوبة على السلطات الحاكمة، إن لم يكن مستحيلًا، فيصبح لدينا بالمحصلة قواعد دستورية أكثر سموًّا من قواعد الدستور الأخرى، والتي بدورها أسمى من القوانين العادية.


نزار أيوب


المصدر
جيرون