معهد العالم العربي، المعادلة الصعبة



كثرت في السنوات الأخيرة التساؤلات عن (معهد العالم العربي) وطبيعة نشاطاته، وعن تغييرٍ، يكاد يكون جذريًا، في تصوره وفي خياراته وفي سياساته، وذلك منذ أن عهد برئاسته إلى جاك لانغ، أحد أهم وزراء الثقافة في ظل الجمهورية الخامسة في عهد فرنسوا ميتران، خلال أكثر من عشر سنوات (1981 – 1992). وهي تساؤلات تفرضها توقعات الإنجازات التي كان ينتظر منه تحقيقها للمعهد، على غرار بعض ما حققه في مجال الثقافة، حين كان وزيرها. لكن محاولة الإجابة عن مثل هذه التساؤلات تقتضي العودة إلى الفكرة الأساس، أي فكرة إنشاء هذه المؤسسة الثقافية التي أرادت بها فرنسا أن تستعيد ألق سياستها العربية التي دشنها الجنرال ديغول، منذ اعتراف فرنسا باستقلال الجزائر.

فقد كان مشروع إنشاء معهدٍ للعالم العربي، يكونُ مركزًا ثقافيًا يُعرِّف الجمهور الفرنسي والأوروبي بثمرات الحضارة العربية والإسلامية، تقيمه فرنسا في عاصمتها بالاشتراك مع الدول الأعضاء في الجامعة العربية، فكرةً غير مسبوقة، بل فريدة، في العلاقات الدبلوماسية والثقافية الدولية. ولأنها فريدة وغير مسبوقة؛ فقد انطوت، ما إن بدأت نشاطات المعهد اليومية في مقره نهاية عام 1987، على سوء فهمٍ، على مختلف الصعد المالية والإدارية والتنظيمية، من جانب عدد من البلدان العربية تحديدًا، مما أتاح المجال، من بعدُ، لمحادثات حول ذلك، استمرت زمنًا طويلًا على المستوى الدبلوماسي، وكذلك لاجتماعات ونقاشات واسعة داخل الهيئتَين الرئيستَين للمعهد: المجلس الأعلى الذي يضم ممثلين عن كافة الدول المؤسسة، ومجلس الإدارة الذي يضم ممثلي الطرفَين المؤسسَين، الفرنسي والعربي، وفي مناسبات مختلفة.

على أن الطرف الفرنسي، صاحب الفكرة والمبادرة، سار على طريق التنفيذ بلا توقف، نظرًا إلى وضوح اتفاقية التأسيس في تحديد مسؤوليات الطرفَين الشريكَين. فبفضل جاك شيراك، وكان عمدة مدينة باريس، عند توقيع وزراء خارجية فرنسا والدول العربية هذه الاتفاقية في بداية ثمانينيات القرن الماضي، الذي اقترح قطعة الأرض التي سيقام عليها مقر المعهد، بدلًا من تلك التي كانت مقررة له في الدائرة الخامسة عشر، ثم بفضل فرنسوا ميتران رئيس جمهورية فرنسا منذ أيار 1981 الذي أدخل مشروع بنائه ضمن المشروعات العمرانية الكبرى التي اعتمدها، خلال فترتي رئاسته (ومنها هرم اللوفر، وأوبرا الباستيل، ومبنى المكتبة الوطنية الجديد التي حملت اسمه)، والذي كان له الفضل مع وزير الثقافة يومئذ جاك لانغ، في استبعاد المشروعات التقليدية التي اقترحت لمبنى المعهد، أقول بفضل شيراك وميتران ولانغ؛ أمكن للعمارة التي صممها ونفذها المعماري الفذ جان نوفل، أن ترسو شامخة على ضفة نهر السين، في الدائرة الباريسية الخامسة، تحفة معمارية تقول طموح العرب الثقافي، انطلاقًا من ثراء تراث مستعاد ضمن رؤية معاصرة، تعيد تكوين العناصر القديمة، وتحدد وظائفها ودلالاتها الجديدة. لكن مبنى (معهد العالم العربي) طرح، منذ ذلك الحين، إشكالية طبيعة وظيفته (دون الحديث عن تمويله) وكيفية تحقيق غاياته. فهل كان المراد منه أن يكون مجرد واجهة تعرض ثمرات حضارة لا شك في عراقتها وثمراتها، أم كان المراد، فضلًا عن ذلك، تقديم العالم العربي الحديث والمعاصر، من خلال مختلف جوانب صراعاته مع ماضيه وحاضره، من أجل استعادة قوة حركيته التاريخية، وتحقيق طموحاته الحداثية في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية؟

منذ البداية، واجهت هذه الإشكالية عقبتَين: تصميم المبنى بناءً على التصور الأساس من ناحية، ومواقف الدول العربية المؤسِّسَة من ناحية أخرى؛ إذ مع تنفيذ مختلف النشاطات الثقافية التي نظمت طوال الأشهر الثلاثة الأولى، بمناسبة افتتاحه في نهاية عام 1987، سرعان ما بدت لبعض العاملين، ممن لم يشاركوا قبل سبع سنوات من افتتاحه في وضع ما يسمى دفتر الشروط، فداحةُ المسافة التي اتضحت -آنئذ- بين المشروع الأساس الذي صُمم المبنى على أساسه، وذلك الذي كان يتطلبه طموح بعض العاملين فيه من العرب، وكذلك طموح عدد من الرؤساء الذين توالوا على إدارته، وفي مقدمتهم أحد كبار مثقفي وساسة فرنسا، خلال النصف الثاني من القرن العشرين: إدغار بيزاني، والذين ووجهوا بما يفرضه المبنى في تصميمه الأولي والأساس.

فقد كان هذا التصميم الذي اكتشفه الجمهور، يوم افتتاح المعهد رسميًا في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، شديد البساطة: مكتبة عامة نظمت على غرار المكتبة التي افتتحت من قبل في مركز جورج بومبيدو، لكنها مختصة بالثقافة والحضارة العربيتين قديمًا وحديثًا؛ ومتحف يضم عددًا من القطع الأثرية العربية والإسلامية تنتمي إلى مختلف العصور، تمّ إيداعها مؤقتًا من قبل عدد من المتاحف الوطنية الفرنسية، فضلًا عن قاعة خُصصت للفن التشكيلي العربي المعاصر؛ وفضاء لمنوعات النشاط الثقافي، عماده قاعة محاضرات وعروض سينمائية، وفضاء سمعي/ بصري يجمع شاشات التلفزيونات الرسمية للدول العربية المؤسِّسَة، وقاعة للمعارض المؤقتة. أي، بعبارة أخرى، مجرد واجهة تعرض فيها ثمرات الحضارة العربية والإسلامية، قديمًا وحديثًا؛ إذ لم تكن قاعة المحاضرات والسينما (الأوديتوريوم) مجهزة تقنيًا لاستقبال أكثر من محاضر واحد على خشبة المسرح، في حين كان سقف قاعة المعارض المفتوح على الطابق الأرضي لاستقبال النور الطبيعي من واجهة المبنى، يعرِّض الأشياءَ المعروضة على الأقل إلى خطر حريق مفاجئ، يسببه عقب سيجارة يُلقى عفوًا أو قصدًا!

أما الدول العربية، فلم تكن في واقع الأمر تمثل طرفًا “واحدًا” بل أطرافًا، لا حين يمس الأمر الشأن المالي فحسب، بل كذلك حين يتعلق بالنشاطات الثقافية التي يمكن أن تتعرض لموضوعات يعتبرها البعض منها من المحرمات.

لم تشهد السنة الأولى في مقر المعهد أكثر من النشاطات التي كان قد خطط لها بمناسبة الافتتاح الذي حظي بميزانية كافية من أجل تغطيتها. ومن ثم فقد كانت سياسة الإدارة خلالها تنسجم مع التصور الذي قامت عليه عمارة المبنى: متحف ومكتبة ونشاط ثقافي يقتصر على محاضرة أو فيلم سينمائي. وبالتالي، فلا بدّ لأية نشاطات أخرى “إضافية” من أن تمول بإسهامات الدول العربية (باعتبار أن الإسهام الفرنسي يغطي أعباء المبنى والموظفين)، أو بالواردات التي يمكن أن يدرّها النشاط نفسه، كالعروض السينمائية.

لكن هذه المعادلة القائمة على أن “إسهام الدول العربية يمكن أن يؤدي إلى القيام بنشاطات ثقافية”، انقلبت مع تسمية إدغار بيزاني في نهاية عام 1988 رئيسًا للمعهد، وصارت: “إنجاز نشاطات ثقافية يمكن أن يؤدي إلى إسهام الدول العربية”. وانطلاقًا من ذلك، افتتح ما بات يعرف منذئذ بالمعارض الكبرى، بادئًا بمعرض (مصر عبر كل العصور) الذي استطاع أن يغطي نفقاته بالواردات التي حققها، مما أتاح الفرصة لتغيير جذري في التصور الأساس الذي قام عليه المعهد؛ إذ يمكن من الآن فصاعدًا أن يكون واجهة ثقافية وأداة دبلوماسية ومؤسسة ثقافية، تسعى من حول معارضها الكبرى إلى أن تصل الماضي بالحاضر، وأن تعمل، عبر النشاطات الموازية، على تقديم مختلف جوانب العالم العربي الراهن، الثقافية والاجتماعية والإبداعية.

كان هذا التصور الجديد يحتاج إلى وضع مؤسسي يبرره، يتجاوز السفراء العرب الذين كانوا يمثلون دولهم في هيئتي المعهد المشار إليهما من قبل. فما قاله ذات يوم سفير الكويت بباريس المرحوم عيسى الحمد، من أن السفراء في المعهد ليسوا أكثر من سعاة بريد بين الحكومة الفرنسية وبلدانهم، ومن ثم لا بدّ لكل دولة عربية من أن تسمي مثقفًا كبيرًا، يمثلها في المجلس الأعلى، كما فعلت الكويت حين عينت الدكتور فاروق العمر ممثلها فيه، بدلًا من سفيرها بباريس، وجدَ لدى إدغار بيزاني، من حيث يدري أو لا يدري، أصداءه حين قرر تشكيل اللجنة الثقافية الاستشارية التي ضمت نخبة من كبار مثقفي وعلماء العالم العربي، كي يجعل منها المرجع الأساس في نشاطات المعهد وفي تحقيق رسالته..

(للمقال تتمة)


بدر الدين عرودكي


المصدر
جيرون