‘نيو يورك تايمز: مسكون بذكريات التعذيب السوري، المحفوظة في اللوحات’

8 شباط (فبراير - فيفري)، 2018
10 minutes

نجاح البقاعي، فنان سوري، في شقته ومرسمه في فونتيناي لو كوم، فرنسا. بيير تيرجمان لـ (نيويورك تايمز)

بصفته فنانًا بارعًا في سورية قبل الحرب، كان السيد بقاعي يعتقد منذ فترة طويلة أنّ ذاكرته الفوتوغرافية هي أعظم ما يملكه؛ ما كان يسمح له بإعادة المشاهد في لوحاته، بعد أيامٍ وأشهرٍ بل سنواتٍ من لحظة وقوعها. ورغم أنَّه نجا من الموت مرتين، في مراكز الاحتجاز سيئة السمعة التابعة للحكومة السورية، لكنَّ ذكرياته الحادة لا تفارقه أبدًا.

ذات يوم في الآونة الأخيرة، في منزلٍ مع عائلته في فونتيناي لو كوم، وهي مدينةٌ غافية في وادي لوار، فتح صناديق تحتوي عشرات من الرسومات التي كان قد رسمها من الصور المحفورة في دماغه. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يحكي بها عن التعامل مع الصدمات التي شهدها، وعانى منها، في غرف التعذيب في سورية.

في إحدى المرات، كان رجال معتقلون يرتدون ملابسهم الداخلية فقط يحملون جثةً لُفّت بما يشبه شرشفًا أو بطانية، للتخلص منها بشكلٍ نهائي -كما يقول السيد بقاعي- إلى ظهر شاحنةٍ ورميها بين كومة من الأجساد الأخرى. يتذكر رقم 5535، على صدر الشاب. وروى السيد بقاعي أنّهم أُمِروا بخلع ملابسهم الداخلية، حتى يمكن رصدهم بسهولةٍ إنْ حاولوا الفرار. وتابع متحدثًا: “أنقذني الرسم”، بينما كان يبسط لوحاته على طاولة.

تذكّره لوحاته بالعديد من النقاد لعمل الفنان السلوفيني الناجي من المحرقة: زوران موزيك، مسكونًا، بواقعيةٍ قاتمة للغاية. في رسوماته، بعض السجناء معلقون من أيديهم، ويتعرض آخرون لأشكالٍ أخرى من التعذيب، في حين أنَّ زملاءهم في الزنزانة يأكلون وجباتهم بهدوء، من دون إحساسٍ للمظاهر اللاإنسانية حولهم. وقال: “كنت أراقب كلّ شيء، وأرسم لوحاتي في رأسي”، كما تحدث عن وقته في زنزانةٍ مكتظة، حيث كان على السجناء خلع ملابسهم، بسبب الحرارة التي لا تُحتمَل.

لا يزال يتذكر رائحة اللحم الفاسد، وصراخ السجناء الآخرين، وكيف أنّه وآخرين اعتادوا على كل ذلك. اليوم، يسافر السيد بقاعي عبر فرنسا، لرفع مستوى الوعي حول أهوال مراكز الاحتجاز، في حين أنّ دار النشر الفرنسية (دي سيوي) تستعد لنشر كتابٍ عن رسوماته.

قال السيد بقاعي عن عمله “إنه علاج شخصي”. “طوال الوقت الذي أمضيته في الجحيم، حاولت ألا أرى الكوابيس، بدلًا من ذلك، أجبرت نفسي على رؤية أحلام جميلة”.

إنّ تجاربه خلال الحرب الأهلية السورية لم تكنْ كلها مختلفةً عن تجارب عشرات الآلاف من الشبان الآخرين الذين نزلوا إلى الشوارع مطالبين بالديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أنَّه ربما نجا من ذلك. أُلقي القبض عليه ثلاث مراتٍ لمشاركته في الاحتجاجات، وسُجن عام 2012 مدة شهر، ومدة 11 شهرًا في عام 2014.

ووفقًا لمجموعاتٍ حقوقية، قامت حكومة الرئيس بشار الأسد بتعذيب عشرات الآلاف من المعارضين السياسيين، العديد منهم لم ترهم أسرهم مرةً أخرى. لا أحد يعرف بالضبط كم عدد الذين اختفوا.

تقول سارة الكيالي، وهي باحثةٌ في (هيومن رايتس ووتش): “لم أرَ أيّ شيءٍ مثل أساليب التعذيب التي استخدمتها الأجهزة الأمنية السورية في أيّ بلدٍ آخر”.

وكان السيد بقاعي (47 ​​سنة) محظوظًا لأن يخرج من سجون الأسد وهو على قيد الحياة، لكنَّ أكثر من 40 من أفراد أسرته توفوا في عام 2012، يومَ قصف حيّهم في جديدة عرطوز، إحدى ضواحي دمشق. بقاؤه على قيد الحياة، وفي نهاية المطاف، هروبه من سورية كان يعود إلى عزم زوجته عبير جسومه. في فترتيّ اعتقاله، كانت تظل تبحث عنه إلى أنْ تجده، 10 أيام في المرة الأولى، 20 يومًا في الثانية، رشت المسؤولين لكسب حريته أكثر من 20,000 دولار، أو حوالي 10 أضعاف دخلها السنوي، التي تمّ جمعها بمساعدة الأشقاء الذين يعيشون في الخارج.

اختاروا الاستقرار في هذه المدينة الفرنسية الصغيرة لأنّ أحدَّ إخوته، وهو طبيبٌ، كان يعيش هنا. كان لدى السيد بقاعي صلة بفرنسا، حيث التحق ببرنامج البكالوريوس في روان في التسعينيات، بعد دراسة الرسم في مدينة حمص السورية، والفنون الجميلة في دمشق.

يسافر السيد بقاعي الآن عبر فرنسا لرفع مستوى الوعي حول أهوال مراكز الاعتقال السورية. تصوير: بيير تيرجمان لـ (نيويورك تايمز)

كانت تربيته مريحة لكنها عادية، على الأقل حتى الربيع العربي. وكان والده، الذي كان يعمل في مصفاة تكرير النفط في حمص، علمانيًا لكنه غير منخرطٍ بالسياسة، لكن العديد من أقاربه عارضوا الحكام الاستبداديين في البلاد: حافظ الأسد والرئيس الحالي بشار الأسد، وكانوا من بين أولّ من انضم إلى الاحتجاجات السلمية التي اندلعت في عام 2011. في أول احتجاج في جديدة عرطوز، كان 15 من المشاركين الخمس وعشرين من عائلة البقاعي.

أعرب السيد بقاعي عن اعتقاده الراسخ بأنّ قيم الحرية والديمقراطية ستنتصر، حيث قام بتصوير مقاطع فيديو للاحتجاجات ونشرها على الإنترنت. اعتقدَ بأنَّ أيام الحكومة معدودة.

وقال: “عندما رأينا أنَّ القوات الدولية أطاحت القذافي، كنا نظنُّ أنَّ هذه هي فرصتنا لإسقاط الأسد”، مشيرًا إلى قصف حلف الـ (ناتو) على ليبيا في عام 2011، وعلى الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي. كانوا يتوقعون نهايةً سريعة مماثلة للأسد: “لم نكن نفكر قط أنَّه سيذبح السوريين من دون أن يتزحزح أحد. كنا نعلم أنّه ربما يموت بضع مئات، وهي تكلفةٌ صغيرة من أجل حريتنا”.

لذلك بقي السيد بقاعي في سورية، على الرغم من أنّه كان يعلم أنّه سيتعرض للاعتقال، ومع أنَّ قوات الأمن قامت بتفتيش منزل والدته وحرقه في عام 2012، ظلّ يعيش مع العائلة حتى اعتقله الأمن. وقالت السيدة جسومه: “كنت دائمًا خائفة، لكنْ حتى عندما طلبت منه التوقف، لم يفعل ذلك”.

جاء اعتقاله الأول في يوليو/ تموز 2012، في أثناء انتقاله للعمل في الجامعة الدولية للعلوم والتكنولوجيا في دمشق، حيث كان يدرس الفن. فقد ارتكب خطأً في البقاء على متن حافلته أثناء مرورها على إحدى نقاط التفتيش العديدة التي ظهرت في دمشق، مع تصاعد الحرب الأهلية.

وجد الحراس اسمه على قائمة المطلوبين. أنزلوه من الحافلة، وسموه “خائنًا”، كبلوا يديّه، وعصبّوا عينيه بقميصه، واقتادوه إلى مركز احتجاز، وهناك تعرض للضرب الشديد لدرجة أنّ بعض عظامه أصيبت بكسور، وعانى من فقدانٍ مؤقت للسمع، وما يزال معصماه يحملان ندوبًا من ذلك اليوم، ويقول إنَّه ما زال يسمع -حتى اليوم- صراخ السجناء الآخرين.

تستعد دار النشر الفرنسية (دي سيوي) لنشر كتاب رسومات السيد بقاعي.

دفعت السيدة جسومه نحو 1000 دولار، لإخراجه من السجن، ولكنْ لم تُرفَع التهم عنه، ثم قضى عامين متخفيًا. وفي عام 2014، قرّر هو وأسرته الهروب من سورية. قاموا برشوة شخصٍ ما، لحذف اسمه من قائمة المراقبة على الحدود، لبسوا صلبانًا مثل المسيحيين، لكنّهم تعرضوا للخيانة: اسم السيد بقاعي ما زال مدرجًا في القائمة. أُلقيّ القبض عليه، وأُعيد إلى مركز الاحتجاز نفسه في الفرع 227.

وبحلول ذلك الوقت، وصلت الانتهاكات إلى مستوياتٍ جديدة من الفساد، كان السجناء مجبرين على مشاهدة التعذيب، والمشاركة فيه. ومرةً أخرى، دفعت السيدة جسومه رشوة، وهذه المرة 6000 دولار، لكي يُنقل زوجها بعد 70 يومًا إلى سجن، حيث لا يتعرض للتعذيب، ويُسمح له بزياراتٍ عائلية.

“أنا محظوظٌ، أنا أحب الحياة. أنا متعلقٌ بالحياة”، قال السيد بقاعي عن كيفية عبوره المحنة. “كان لديّ أملٌ كبير في الخروج، ورؤية زوجتي وابنتيّ من جديد”.

ظلّت زوجته تسافر كلّ أسبوع لرؤيته، تعبر مناطق الحرب 38 مرةٍ؛ لمنحه الشجاعة -كما تقول- للبقاء على قيد الحياة. بعد أنْ دفعت رشوةً نهائية، أُطلق سراحه من السجن، وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2015، تأكّد من أنَّ اسمه قد أزيل من القائمة المطلوبة، غادروا سورية نهائيًا، حملوا بعض الرسومات التي رسمها في السجن والآلات الموسيقية إلى جذب انتباه ضباط الجمارك بعيدًا عن اللوحات. وعندما وصلوا إلى لبنان؛ طلبوا على الفور اللجوء في السفارة الفرنسية في بيروت.

اليوم يحاولون ببطءٍ بناء حياة في الخارج. لكنّهم ما زالوا يأملون العودة إلى سورية ذات يومٍ، بعد إسقاط حكومة الأسد. وحتى ذلك الحين، سيبقى السيد بقاعي يرسم.

وأضاف: “إنّه علاجٌ شخصيّ يسمح لي بالراحة، طوال الوقت الذي أمضيته في الجحيم، حاولت ألا أرى الكوابيس، بدلًا من ذلك، أجبرتُ نفسي على رؤية أحلام جميلة”.

اسم المقالة الأصلي
Haunted by Memories of Syrian Torture, Saved by Art

الكاتب
عايدة علمي، AIDA ALAMI

مكان النشر وتاريخه
نيو يورك تايمز، The New York Times،2/2

رابط المقالة
https://www.nytimes.com/2018/02/02/world/middleeast/syria-torture-artist-najah-al-bukai.html

عدد الكلمات
1166

ترجمة
أحمد عيشة

https://www.nytimes.com/2018/02/02/world/middleeast/syria-torture-artist-najah-al-bukai.html

أحمد عيشة
[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

جيرون