الرقص



“لا يقوى الكائن البشري على تحمل الكثير من الواقع” ت س. إليوت

جلّ ما يستطيعه الإنسان في هذا المصير المجهول الذي يعيشه في الواقع، وبخاصة إن كان شديد الوعي والحساسية، هو قابليته على التأقلم، فهو يصنع السعادة كما يصنع التعاسة، وذلك من خلال المواساة الطبيعية، والتواطؤ مع المخيلة لصنع واقع مستساغ يخفف عليه قلقه. والرقص حالة شعورية تأخذ الإنسان إلى ما هو لاشعوري، كي تحرره.

يحمل الرقص في طياته إمكانية التعبير عن الوجود الإنساني، بلغة تنطوي على الحركات الجسدية، والوظيفة الإيحائية التي تتمخض، كما اللغة، عن حالات إيمائية واستعارات تشبيهية تتوافق مع الطبيعة، وتتناغم مع وجودها الشاعري. الرقص هو لغة الجسد التي تحدّث بها الإنسان مع الوجود، رافقت كل منطقة في الأرض، وكل مكان حسب إيقاعه وتأمله؛ ابتداء من الرقص حول النار التي شكّلت معرفة الإبهام عند الإنسان الأول، وتمثّلًا برقصة الشمس، ورقصة القمر، تحويرًا لشكل العبادات، وانتهاء بالرقص الحديث، والذي لم ينفصل عن الرقص الشعبي، حالة إصغاء شديد نتج عنها حركات تشبه حركة الطير، والشجر، والفكرة التصورية عن الإله.

كان الرقص يقدّم كطقس للترفيه عن الآلهة، ظنًّا من الإنسان أن الآلهة وحيدة مثله، وكل ما تهبه إياه ما هو إلا لإيناس وجوده. امتنانًا لذلك؛ بدأ بالرقص، في حالة من التصعيد الشعوري، والنشوة الوجودية، تمثّلت بتسليم مطلق للجسد، يأخذ العقل بها راحة من التفكير، ليصير جزءًا محركًا للعضلات فحسب، وتبدأ الروح بحالة انطلاق وتماه، لتعيش اللحظة، مانحة الجسد الطاقة على صنع إيماءات تحرره، فتجد الجسد على استمرار المران قد أصبح لينًا كالطبيعة.

مع توالي أحقاب الآلهة، وتبدل مفهوم الأنوثة والذكورة، وحضور الإله الذكر في مجتمعاتنا الميتة؛ تحوّلت تسلية الآلهة من طقس جماعي، إلى طقس نسائي، يخدم الآلهة المتعددة، ثمّ إلى طقس يمتّع ويرفّه عن الرجل عبر آلاف السنين؛ كما “الجيشا“ في اليابان، أحد أرقى أنواع فنون الرقص، والذي يترافق من جيل إلى جيل ضمن مهنية عالية، لكن هذا الرقي مرهون بالاستعباد للرجل! وكما الرقص الشرقي أحد أجمل التعبيرات الأنثوية التي تبرز جمال الأنوثة، والذي تحول إلى حالة إغواء للفكر الذكوري، وتتعامل معه المرأة ضمن الفكر نفسه، في طقس ماجن.

يرى أفلاطون في الحماسة حضورًا إلهيًا في الإنسان، والرقص يحفز النشوة والحماسة، فهو يحفّز هذا الحضور، كما يرى إدغار موران أن الرقص أحد أشكال الحالة الشعرية المتمثلة بالانفعال والمشاعر، وعتبة معينة من الكثافة في المشاركة، “وتبلغ الحالة الشعرية ذروتها في النشوة”. لكن هذه النشوة الألوهية -إن صح القول- وإن كانت على عتبة الألوهية، لا تكون بالضرورة نشوة لصالح البشرية، بل هي نشوة على نقيضين، أي أنها تحمل حالتين متناقضتين من النشوة، جزء مبهم منها هو نشوة القتل. هذه النشوة التي تحرض عليها الدموية المتفشية في مرحلة المعارك والحروب! تناقض مرعب، وكأنما البشرية لا تحيا بعافية، إن لم يكن جزء منها يعبث به الموت بشراهة.

في القرن الحادي والعشرين، في زمن الحروب والمآسي، نحن نعيش الحالة النفعية والوظيفية التي ترتبط بالبقاء، وكسب العيش، وفي العمل المستعبد، حيث باتت كل الطقوس مهمشة تقع على ضفة موازية من الخوف، وبذلك ابتعدت السعادة والنشوة عن الأماكن التي يسكنها رهاب الموت، وبات الرقص يستخدم كوسيلة لكسب العيش لا كجمالية، وتهشّمت الثقافات التراثية التي تحمل الفكر الجماعي التقليدي لحضارة المناطق.

فالرقص، وهو لعبة الإنسان الكبير والصغير التي تزداد نشوة وجمالًا وإيحاء بالطقس الجماعي، هزل أمام الخوف من الآخر، هذا الآخر الذي يحتاج الرقص إلى كتفه وأصابعه لتتشابك إحياء للمتعة الإنسانية.. الآخر الذي خطفه الموت في خضم حربٍ أقصته عن الأخوّة، أو شَهر سلاحه في وجه ابن جلدته.

عندما يخيّم الحزن على جزء من حياتنا؛ يصاب الرقص بالخجل، ويخبو وجوده أمام المجازر التي لا تمتّ إلى السمة الإنسانية بصفة، كلّما ازداد البشر خبرة على الأرض؛ ازدادوا همجية وبربرية، على عكس التصوّر المتخيل لبناء السعادة، والتي تضيّق جسد الحياة، ليقعي الرقص أمام هذا التشوّه، أو يصبح رقصًا جريحًا، لأمهات مكلومات يرقصن، وهنّ يشيعن جثامين أبنائهن “الشهداء”، الضحايا باسم الوطن! راقصات بدموع ومناديل وزغاريد، تقلب الحزن إلى حالة تناغم مع الطبيعة، ليسلون وهن عارفات أن الحياة تهب وتأخذ، والرقص خير خيار للنشوة الملتبسة، معلنًا عن حالة الحرب.

الرقص اختزال الاختلاجات النفسية من فرح، حزن، تشجيع، سعادة، تحفيز، حماس.. الرقص هو النار التي تتقد في روح الجماعة، لتصبح فردًا، وفي روح الفرد ليصبح جماعة، لغة تعبيرية فنية جسدت الشكل اللغوي، قبل تجسيد الكلام. وهو اختصار الهتافات التي شقت طريقها على أكتاف الشعور بالحرية. لكن يؤكد إدغار موران أنّ الإنسان متناقض، ونحن نرى أن هذا التناقض يرينا أن عتبة النشوة نفسها، تأخذنا إلى نقيضين، فنشوة الرقص (الشعور بالحرية)، نقيضها نشوة الرقص للقتلة. إنّ المرحلة الدموية المأسوية التي عضّت على أرواحنا، تمخضّت عن أناس يرقصون فوق جثث قتلاهم.


خلود شرف


المصدر
جيرون