عن سراقب.. كلّما شهقت الروح



كلّما قرأتُ خبرًا عن قصف مدينة سراقب؛ اهتزّت عمارةُ الذكريات في داخلي، كأنّما القصف كان قريبًا جدًا، وسيصير وشيكًا جدًا، وليس لديّ ملجأ منه سوى الكتابة؛ احتمي بها من قصف الذكريات.

ليس هذا لأنّ سراقب تبعد عن مدينتي مسافة سهمٍ من قوسه إلى مُستقرّه، وإلّا.. كيف عرفتها طفلًا، يأخذني والدي إليها، وبالضبط إلى أصدقائه من “آل الحيّاني”، ثمّ سيأخذ الجميعُ جميعنا إلى “المقتايه” كحقلٍ على امتداد النظر، يتكوّر فيه “الجبس” البطيخ الأحمر، حتى يصير أكبر من “الكرة الأرضية” في غرفة مدير مدرستي الابتدائية؛ قاعدتُه ترابٌ أحمر، بل كلونه حين يصيرُ في الأتون قرميدًا، ثمّ يمتدّ اخضرارُ أوراقه حتى خطّ الأفق، وفوقه شرشفُ سماءٍ زرقاء لا يطويها البصر.

ولا تُختتمُ رحلةٌ إلى سراقب سوى عند “أبو سلوى”، حيث زبديّة “الهيطيلية” وفوقها “البوظة” من حليبٍ بلديٍّ لا يعرفُ الغشُّ بياضه، ولا يقبلُ زينةً سوى بحبّات الفستق الحلبيّ.

أن يُعرف شخصٌ بالإحالة إلى اسم ابنته أمرٌ نادرٌ في مجتمعٍ يُصنّفُهُ البعضُ أقرب إلى البداوة، غير مُدركين حجم التحوُّلات في بُنيته، وطبيعة الاستقرار الزراعي في منطقةٍ خصبة، وحُبّ أهله للعمل وللعلم معًا.

يختصر كثيرٌ من السوريين مدينة سراقب بالهيطليّة والجبس؛ وهذا ليس عدلًا، وليس سوى جانبٍ منها، بل ليس جوهرها على الإطلاق. جوهرُها الحب والتكاتُف وعشق العمل، فقد تحوّلت من قريةٍ إلى بلدةٍ إلى مدينة مُزدهرة، بفضل ذاك الثالوث، وأيضًا بتبلوُر نخبةٍ فيها من المُتعلّمين والمُثقفين والمُبدعين؛ حتى لكأنّ عدوى السياسة والثقافة قد مسّت جميع أجيالها المُتوالية! وكما أغلب المدن السورية، تجاذبتها الأفكار الشيوعية والقومية الناصرية/ البعثية، مع بعضٍ من المُتأسلمين، ردًا على عُنف السلطة الأسدية في الثمانينيات.

منذ أول أمسيةٍ أدبيةٍ في سراقب شاركتُ فيها عام 1978، ثمّ في مهرجانها الأدبي–الفني؛ كنتُ أحسدها على جمهورها الدؤوب في مُتابعته، كما في طرح الأسئلة، مُتفاخرًا به في الوقت ذاته.

وكنتُ، كلما استشهدتُ على كسر مركزيّة المدن الكبرى في استقطابها لكلّ شيء؛ أذكرها بين حزمةٍ من المُدُن المنسيّة في الخُطط الخمسية البعثية ثم الأسدية؛ ولكن النابضة بالحياة على الرغم من كلّ شيء: من عامودا إلى الرقّة، ومن عفرين إلى مصياف، ومن السلمية إلى بسكنتا إلى شهبا والقريّا وسواها.

عرفتُ الفنان والناقد التشكيلي عبد الرزاق كنجو، والشاعر أسعد سمّاق، وصادقتُ وعشتُ أيامًا مع الشاعر عبد السلام حلّوم، والقاصّ عبد الرحمن حلّاق، وبخاصةٍ في جامعة حلب، ومع تواتر مُلتقاها الأدبي الشهير منذ 1981 حتى 1986؛ كما يروقني إبداع الشاعر ياسر الأطرش، ولن يكون منهل باريش آخر سراقبي أعرفه؛ وليعذرني الجميع، فقائمة الأسماء تطول.

كانت فاتحة تعرُّفي الثقافي على سراقب: أستاذ التاريخ عبد الله الحيّاني، ثمّ وجدني في موقع “تل مرديخ” قرب سراقب، فابتسم لطالبه:

– “جيت لهون.. لتشاغب كمان!”. ضحكت:

– سمعت أنهم بدؤوا ترجمة بعض الرقيمات؛ وأنت معنا من مؤسسي النادي الأدبي؛ ألا يستحق الأمرُ إقامة محاضرة!

هزّ رأسه، أخذني من يدي، تجوّلنا حيثُ نقّب الإيطاليّ “باولو ماتيه” طويلًا عن يقينٍ لم يلمسهُ بعدُ، بأنّ لسوريا الوسطى من جنوبها: الجولان، إلى شمالها في إدلب، دورٌ في الحضارات القديمة، لا يقلُّ عن دور المدن الرافديّة، وبخاصةٍ التي على نهر الفرات؛ حتى تبدّت له المكتبة الملكيّة في إيبلا، بكلّ أيقوناتها المسمارية، وتبدّى لألفونسو آركي، خبير اللغات الساميّة في بعثته، حجمُ القرابة بين الإيبلائية والعربية.

كان آركي يضع اللمسات الأخيرة على أول قاموسٍ له لأول مئة كلمةٍ إيبلائية، وقد ترجم منها 99 كلمة، فاستعصى عليه اكتمالُ عشراتٍ إلى مئات. ضحك الحيّاني:

– الرقم 99 مُعضلةُ هذا الشرق كلّه!

وفي المُحاضرة التي أقمناها له.. اعترف ألفونسو آركي بأنّ الحيّاني قد حلّ له لغز الكلمة المئة في قاموسه، ثمّ أردف:

– كانت تُقلقني تلك الكلمة، فسألتُ الأستاذ الحياني عنها: لم أجد لكلمة “كيّاتُو” ترجمةً. ضحك الحيّاني:

– ستعرفها من حاراتنا.

أخذني إلى قرية “تلّ مرديخ” ذاتها؛ توقّف عند أولاد يلعبون بالكرات الزجاجية الصغيرة الملونة “الدحل”، ترجّل من السيارة.. انحنى مُلتقطًا أحد الكرات الزجاجية الصغيرة الملوّنة:

– “هي.. لمين؟”. صاح ولد:

– “هي كياتي أنا”.

يقصد: هذه لي؛ هذه خاصّتي. عندها، عرف ألفونسو معنى الكلمة المئة؛ مدهوشًا من بقائها على قيد الحياة ثلاثة آلاف عام على الأقلّ.

فكيف سيستطيع الطاغيةُ الابنُ.. وريثُ الطاغية الأب الفائز قسرًا بـ 99 فاصلة 99 إلى الأبد! أن يقصف كلّ هذه التراكم الحضاريّ؛ حتى لو دمّر سراقب كلّها؛ كما دمّر الغُزاةُ إيبلا من قبلها.

إنهم يقصفون “كيّات” أطفالنا من جديدٍ.. يا ألفونسو.

فمن هنا.. من هذا السهل المُمتدّ إلى سفوح طوروس، مرّ الغُزاة واستبدّ بالناس طغاتُنا، كما مرّ امرؤ القيس في طريقه إلى “قيصر الروم” في بيزنطة، طلبًا لتاج المُلك، فعاد بعباءةٍ مسمومة!

ثمّ زال هؤلاء جميعهم.. وبقيت إيبلا.

بقي شعر امرؤ القيس.. وزالت بيزنطة.

مات الطاغية الأبديّ، وسيزولُ وريثُه، لتبقى سراقب عصيّةً.. سوى عن الحياة.


نجم الدين سمان


المصدر
جيرون