من دمشق إلى سوتشي.. الجوع العابر للحدود



يمثل الجوع تحت حكم الأسد حالةَ استعصاء، رسمَت مشهدًا داخليًا قلما انتبه العالم إليه. في سنوات الحرب، تفاقم المشهد، ووصل عدد الجوعى داخل البلاد إلى 12 مليون سوري.

يعزز تسجيل مصور، داخل قاعة طعام خاصة بأعضاء مؤتمر سوتشي الذي عقد يوم 30 كانون الثاني/ يناير، مأسوية الظاهرة. ففي مشهد تراجيدي لافت، تنقل الكاميرا حركة غير منتظمة لأعضاء وفد الأسد، يتدافعون بشكل فوضوي، وعنيف أحيانًا، من أجل حجز مكان حول مائدة مفتوحة، كانت تزخر بأنواع متعددة من الطعام.

قبل أن يصل أحد البعثيين إلى منتجع سوتشي، الذي اختير مكانًا لإجراء حوار سوري-سوري، “دون وصاية أجنبية”، باستثناء الوصاية الروسية، كتب على صفحته في (فيسبوك) يومية قال فيها: “ما أقسى أن تصبح أيام الأسبوع مجرد أرقام تتمنى انقضاءها سريعًا، وتعرف أنها من عمرك، ليأتي آخر الشهر، وتقبض راتبك!”. لكنه في يومية أخرى علّق بالعامية المحلية، على صورة رزم ضخمة من الدولارات تصطف إلى جانب بعضها، قائلًا: “رزمه وحده بس، بركي منعرف نعيش”، ثم تابع مستعينًا بنص قرآني: {ما عند الله خير وأبقى}.

تصنف سورية في عداد البلدان ذات الدخل المتوسط المنخفض، وتشير التقديرات الحالية إلى تدهور دخل الفرد إلى الحضيض. وبعلاقة متبادلة، أدى هذا التدهور إلى إفقار السوريين، وتفشي ظاهرة القصور الغذائي، ومن ثم الجوع، وذلك على نطاق واسع.

تنم التقلبات الحادة التي شهدها العقد الأول من القرن الحالي -سواء على صعيد التحول المفاجئ لاقتصاد البلاد من اقتصاد موجه إلى اقتصاد السوق، أو على صعيد ارتفاع نسب الفقر والبطالة- عن سلسلة إخفاقات متراكمة؛ فقد كشف تفاوت الدخول وتراجع مستوى حياة الشرائح الضعيفة، وشريحة الدخل الثابت، عن فجوة عميقة، ليس فقط على مستوى النمو وتناقص حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، بل على الوضع المعيشي الذي كان يتدنى باطراد، في كل عام.

إن اهتمام الأسد بالتنمية، ووعوده بتحقيق تقدم اقتصادي واجتماعي على نحو متكامل ومستدام، لم يتجاوز بطبيعة الحال طريقة شعارات البعث، التي رفعها ولم يعمل بمقتضاها. فبدلًا من أن يستفيد من التنمية الحديثة التي تتبنى سياسات اجتماعية، تستهدف معالجة الفقر واللامساواة وتقوم على الاستثمار والإنتاج، أسس لمرحلة انكماش اقتصادي مديدة، ومعالجات قصيرة الأمد، أدت بشكل أو بآخر إلى إضعاف قاعدة التمويل والموارد البشرية، وترهل أنساق الخدمات الاجتماعية وتدني مستواها، وحالت دون تمكين الشريحة الفقيرة، بل عزلتها مع الشرائح الأخرى، عن المشاركة في التنمية، من خلال تكافؤ الفرص والتوزيع العادل للمنافع.

بعد سبع سنوات من الحرب، تصنف سورية في قائمة البلدان ذات الدخل المنخفض “جدًا”؛ فالرواتب والأجور تدهورت قيمتها، نتيجة تدني سعر العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، وبلغ متوسط الدخل الشهري للعاملين في القطاع الحكومي نحو 99 دولارًا، وهو المستوى الأسوأ عالميًا، فيما تجاوز متوسط الرواتب، في ناميبيا وزيمبابوي وكينيا وأثيوبيا وأوغندا وتنزانيا، على سبيل المثال، وهي الدول التي كانت إلى وقت قريب تمزقها الحروب والمجاعات، أضعافَ ما هو عليه في سورية.

في سلسلة التراجعات التي مني بها الاقتصاد؛ برز دور الأسد خلال الأعوام العشرة الأخيرة، بمثابة حلقة أساسية، فعلاوة على السياسات التي أقصت شرائح المجتمع عن دورها التنموي، بالنظر إلى انعدام تكافؤ الفرص والتوزيع غير العادل للثروة، أدت الحرب التي يقودها إلى ظهور مستويين من الفقر: فقر الدخل، الذي يحدد مستوى حياة الأفراد (الإنفاق الاستهلاكي الحقيقي على ما يتوفر من سلع وخدمات). والفقر البشري (مستوى الدخل إلى جانب أبعاد حياتية ذات قيمة مثل التعليم والصحة والحريات السياسية). وكان من الطبيعي أن تتراجع مستويات المعيشة، حتى في المناطق المستقرة نسبيًا، وترتفع نسبة الفقر والبطالة والجوع.

تقدر الأمم المتحدة نسبة السكان الذين يعيشون دون خط الفقر بأكثر من 83 بالمئة. فيما تجاوز معدل البطالة 55 بالمئة. أما بخصوص الجوع ونقص التغذية، فقد أظهر تقييم لأثر الحرب بين عامي 2011 و2017، بحسب تقريرٍ أعدته منظمة (أسكوا) ومنظمة الأغذية والزراعة، زيادة انتشار نقص التغذية، والهزال، والتقزم بين الأطفال دون سن الخامسة من10.1  إلى 82.1 في المئة نقص وزن، ومن 5.5 إلى69  بالمئة هزال، ومن 27.5 إلى 100 بالمئة التقزم.

اليوم، تتزايد التكهنات حول سخط الذين يعيشون في حضن الأسد، من جراء وضع معيشتهم المتردي؛ فالنظام الذي استحوذ على “دعمهم”، بالرغم من كل ما يرتكبه من جرائم ومحارق ومجازر بحق المدنيين في مناطق متاخمة لمناطقهم، لم يستطع أن يكافئهم على قدر تأييدهم. بل لم يستطع أن يحميهم من الجوع؛ لأن توفر الأغذية في الأسواق -سواء أكان من خلال الإنتاج المحلي أم الاستيراد أم كليهما- لم يستفد منه هؤلاء؛ ذلك أن الحصول عليها كان يتطلب وصولها ماديًا إلى الأسواق وقدرة مالية على تحمل تكاليف شرائها، واستهلاكها بكمية كافية ونوعية مناسبة، وهو الأمر الذي لم يوفره الأسد لهم، حتى الآن.


علاء كيلاني


المصدر
جيرون