أقبّلُ جبينكِ أيتها الثورة



أين هي الثورة السورية؟ سؤال لا يقل قسوة عن الحرب المفتوحة ضدها منذ سنين، التي راح ضحيتها الملايين من المدنيين القتلى والمعتقلين والمشردين. سؤال يفتقر إلى الضمير والأخلاق، يردده إعلام الممانعة والممانعون، بغرض تجاهل الرفض الجماعي للدكتاتورية الحاكمة في سورية، وإدانة تعبيراته المختلفة بالعمالة والإرهاب، تمهيدًا لتبرير الانتهاكات والجرائم التي تُمارس بحق الشعب السوري، والتشكيك بصدقية التحقيقات والتقارير والوثائق التي تثبت وقوعها، وتستدعي إحالة الجناة إلى محكمة الجنايات الدولية.

أحد أهم مفاعيل الثورة السورية، على المستوى الفكري، أنها تجاوزت ذهنية المؤامرة، والإجابات الجاهزة التي قدمتها العقائد الشمولية، والتي ترى في إشكالات الاستبداد والفساد والتنمية انعكاسًا لمخططات ومؤامرات خارجية، وتربط الحل بتعزيز القوة العسكرية وتمجيد حملة السلاح، في ظل مصادرة كاملة لحق المعرفة وحرية التعبير، لا تبقي على أدنى هامش للتفكير المستقل والرؤية المنفتحة المتعددة الجوانب.

كانت صرخة الاحتجاج الأولى عام 2011 لحظةَ تحوّل تراكمات القمع والتهميش والتغريب إلى انقلاب، وبداية القطع مع الثوابت والمسلمات والشعارات التي فرضتها المنظومة الشمولية، لحظة الوعي بالذات السورية، والتصالح بين مكوناتها، والتعبير عنها بوصفها كينونة مستقلة، متحركة ومتحوّلة، منفتحة ومتعددة المشارب والمذاهب والإثنيات، لحظة عبّرت عن نفسها بشعارَي “سوريا بدها حرية”، و”الشعب السوري واحد”.

لم تخرج الصرخة من بوتقة التنظيمات، ولم تحتفِ بالقيادات، بل خرجَت من رحم المجتمع المدني، ومن أواسط المحرومين، التلاميذ والجامعيين، ربات البيوت والمثقفين، الساسة والتجار والجنود المنشقين والإعلاميين ورجال الدين. خليط ساحر من جميع ألوان الطيف السوري، يوحدهم التوق إلى الحرية والعيش الكريم، لم يتهددوا، ولم يدّعوا البطولات، إنما ظهروا أمام شاشات العالم بكامل ضعفهم وصدورهم المثقوبة بالرصاص، وهذا المشهد الصادق عن حقيقة الحياة السورية، هو من هز أركان النظام وصورته أمام المجتمع الدولي.

كانت لحظة العبور الجماعي إلى العصيان المدني، السلمي والعلني ضد الطغيان، لحظة تاريخية لم يعرفها السوريون، منذ أن تجرعوا مجزرة حماة. لحظة أفرزت الكثير من الأسئلة، وتطلبت إعادة النظر بنظام الحكم وهوية الدولة وحقوق المواطنة، والعلاقة مع دول الجوار والمجتمع الدولي، وكانت الإجابات واضحة ومتفقًا عليها من قبل جميع الشركاء في برزخ العبور: رحيل نظام الأسد، وقيام دولة مدنية ديمقراطية تعددية، يحكمها القانون وحقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة، تساوي بين الجميع، وتمنح الأقليات حقوقهم الثقافية، وتلتزم الحفاظ على السلم العالمي والشرعية الدولية في علاقتها مع الدول الأخرى.

كانت تلك الإجابات هي تجليات ثورة “الحرية والكرامة” التي حاول نظام الأسد إخمادها، بكل ما يملك من أجهزة أمنية وترسانة حربية، بمساندة أعتى الجيوش، وأعنف الميليشيات. ثورة الشعب السوري التي صمدت سبع سنين في وجه الطائرات السورية والروسية، والأسلحة المحرمة، وصواريخ “فيلق القدس” و”حزب الله”، وسيوف “داعش”، وجميع محاولات الطعن والتشويه، والعمل على اختلاق هياكل ومسارات لحل سياسي من خارج الشرعية الدولية يبقي على سيادة الرئيس.

من لا يعرف أين هي الثورة السورية؟ عليه أن يذهب بنفسه إلى المناطق المحاصرة في سورية المنكوبة، ويتأمل مليًا في حجم الدمار ووجوه الأطفال المصابين بسوء التغذية. أن يدخل السجون، ويتعرف على أساليب التعذيب حتى الموت. أن يجول في الشوارع، يسأل المارة عن القلق الذي يسكن مآقيهم، ويحاور الأرامل والثكالى واليتامى والمعوقين. أن يزور مخيمات اللجوء، ويراقب البؤس والأقدام العارية في الشتاء القارس. وأن ينهي جولته بالوقوف قليلًا تحت سماء تغص بالطائرات، يصغي إلى دويّ القذائف، ويستنشق جرعة صغيرة من غاز السارين.


تهامة الجندي


المصدر
جيرون