جلال مراد: سيكولوجيا العبد



1-الكتاب كما هو:

صدر الكتاب قبل أيام، عن (دار كيوان) للطباعة والنشر والتوزيع، ويقع في مئة وتسعين صفحة من القطع الكبير، يبحث في البنية النفسية للعبد، وفي تموضعات هذه الكينونة (العبد أو النفر حسب تعبيرات الكاتب)، في المستويات الاجتماعية المختلفة، ومتابعة أشكال وتجليات هذه البنية النفسية، في كل تموضع من هذه التموضعات. وليس العبد هو المملوك الذي يباع ويشرى وحسب -كما هو معرف في الموروث والمخيال العام- إنما يمكن أن يكون في مواقع مختلفة، فقد يكون ثريًّا وصاحب سلطة ومسؤولًا اقتصاديًا أو سياسيًا أو إعلاميًا.. إلخ. وهذا يبدو واضحًا في الكتاب من بداياته، فالعبد ليس أحد أعضاء أو أفراد طبقة العبيد أو المملوكين، بل هو الإنسان الذي يتميز ببنية نفسية، أوضحها الكتاب، وأوضح الكثير من تموضعاتها الاجتماعية، وربما كلها. ومن جهة أخرى، يبحث الكتاب في بنية المجتمع العبدي، وتركيباته المجتمعية وبناه التي تساعد وتتواشج مع ظاهرة العبد المفردة، الأسرة والمنظمات المجتمعية والسياسية والنقابات والمثقفين والثقافة والدولة والإعلام.. إلخ.

يبحث الكتاب في جزئه الأول، في بنية الفرد العبد، أو كما يسميه الكاتب “النفر”، وفي جزئه الثاني يبحث في بنية المجتمع العبدي. في جزئه الأول يحاول متابعة ورصد البنية النفسية في مختلف التموضعات الاجتماعية، وفي جزئه الثاني يحاول رصد ومتابعة مختلف البنى الاجتماعية العبدية، وبيان علاقتها في إنتاج ظاهرة العبد.

للكتاب مقدمتان: مقدمة بقلم كاتبه جلال مراد، يبين فيها مناهجه التي استخدمها، ويوضح مصطلحاته، ومقدمة أخرى بقلم محمد شاويش، يوضح فيها ما قد يلتبس على القارئ، في موضوع التناقض الذي بنى عليه الكاتب كتابه. مقدمة شاويش مهمة جدًا في هذه النقطة بالذات، فهو محق لأن القارئ قد يجد صعوبة في معرفة سبب اعتماد الكاتب على تناقض عبد/ سيد، وليس تناقض عبد/ حر.

2-الكتاب كما أراه:

قرأتُ الكتاب في جلسة واحدة، ليس بسبب صغر حجمه النسبي، إنما بسبب سلاسة لغته وبساطتها وبعدها عن التكلف والغموض، وبسبب عمقها وتماسكها من جهة ثانية. الكتاب شيق، فيه انتقالات جميلة من لغة التخصص الأكاديمي إلى لغة الشعر إلى الأمثال الشعبية التي أدرجها الكاتب بلهجة أهلها دون تحويلها إلى لغة فصيحة؛ ما أكسب النص حيويةً وتشويقًا وبعدًا عن الجلافة المنهجية المعهودة في كتب البحث العلمي. دون أن يُفلت الكاتبُ موضوعَه أو يبدده. وهذه ميزة قلما نجدها في كتب البحث، فالكتاب هو كتاب بحثي، استوفى شروط البحث الأكاديمية، لكنه استطاع أن يفلت من جلافتها وشكلياتها المقيدة، لنكون أمام نص يستند في شرعيته وجودته إلى أصالته وجِدته وجديته، لا إلى الشكليات والمراجع وخلافها من مظاهر البحث الأكاديمي.

على الرغم من تنقل الكاتب في عناوين فرعية كثيرة، فإنه استطاع أن يحافظ على وضوح هاجسه وعطشه في كل مفاصل الكتاب، وعلى الرغم من كثرة العناوين، فإن مفهوم “العبد”، وتتبع تجلياته في جزء الكتاب الأول، كان هو الموجه الحقيقي الذي بقي واضحًا بل استطاع أن يجعل كثرة هذه العناوين زيادة في الإيضاح والمتابعة، بل ملاحقة تجليات مفهوم العبد في تموضعات، لم تكن تخطر على بال القارئ؛ ما يعكس تمكن الكاتب من موضوعه وقدرته على فرز وفصل تجليات ظاهرة العبد، عما يشوبها من صفات مضللة ووهمية. واستمر هذا الوضوح في جزء الكتاب الثاني (من عنوان المجتمعات العبدية إلى آخر الكتاب) لكن كان عطش الكاتب هنا هو بيان التركيبة الاجتماعية المولدة لظاهرة العبد والمتضافرة معها لتوليد نماذج عبدية فردية وجماعية.

لم يقُل الكاتب كل ما يريد قوله، وذلك -حسب رأينا- لسببين: أولهما أن الكتاب حلقة في سلسة تمت الإشارة إلى بعض حلقاتها في الكتاب، والسبب الثاني هو حرص الكاتب الواضح على أن يجنب كتابه أي شكل من أشكال القراءة أو التضمين الأيديولوجي، رغم ما توحي به مقدمة شاويش من استبطان لقراءة الكتاب، حسب نسق فكري يميز محمد شاويش، وبالتالي يمكن أن تحمل هذه المقدمة استبطانًا لقراءة أيديولوجية، أو لنقل توظيفًا أيديولوجيا للكتاب، غير أن الكاتب استطاع أن يحافظ على حيادية منهجية، كانت محفوفة بمخاطر الانزلاق إلى نسق أفكار هنا وهناك، واستطاع أن يصل إلى صياغات وتراكيب وتحليلات، لا يمكن أن ننسبها إلى أي من الأنساق الفكرية والأيديولوجية المعروفة، رغم اعتماده على إنتاجات المفكرين وأصحاب الخطوط الفكرية السابقين، والاستناد إليها. وكأني بالكاتب يمسك ظاهرته: موضوع درسه، ليقول للقارئ: هذه هي ظاهرة العبد، بعد أن تمكنا من تحديد معظم صفاتها الأساسية، وهذا باب يدخلك إلى المزيد من الأبحاث النفسية، وهذا مفتاحه، إن أردت المزيد فافتح واكتشف بنفسك، وهذا باب آخر يفضي بك إلى التراكيب الاجتماعية المنتجة والمتضافرة والمتواشجة مع ظاهرة العبد، فإن أردت المزيد فافتح الباب بنفسك. وهذا بالضبط ما دفعنا إلى القول إن الكاتب لم يقل كل ما يريد، فلقد ترك للقارئ حرية متابعة بناء الصورة المعرفية لظاهرة العبد وتوظيفها، حسب ما يتفق مع توجهات القارئ.

3-الكتاب كما يجب أن يُقرأ:

هذه الفقرة ليست لتوجيه القارئ، أو لمحاولة الوصاية عليه أثناء قراءته، وليست لمحاولة استبطان قراءة منحازة، على العكس من ذلك، إنها دعوة حقيقية لقراءة إبداعية، يقول إلياس مرقص: إن الكتابة هي اختراع الكلام للمرة الثانية، والطباعة والنشر هما اختراع الكلام للمرة الثالثة. وأنا أضيف إن القراءة الإبداعية هي اختراع الكلام لمرات متكررة بعدد القراءات.                  فالكتاب ترك للقارئ مجالات واسعة لقراءات وإضافات متعددة، حين استطاع كاتبه أن يحيده عن أي انتماء أيديولوجي لأي من الأنساق الأيديولوجية المعروفة.

إنه كتاب اقتحامي، ينتمي إلى كتب الفكر النقدي، وقد اكتسب هذه الصفة (الاقتحامية)، من كونه يسبر أغوار ظاهرة نراها ونتعامل معها، وربما لا نخلو من إحدى صفاتها، فبعد أن كنا نظن أنها من الموروث القديم الذي تجاوزه الزمن، يحيلنا الكتاب إلى أنه: بمقدار ما أن التاريخ البشري تاريخ الاستبداد وإعادة إنتاجه، وتاريخ الاغتراب وإعادة إنتاجه، فهو –أيضًا- تاريخ العبودية وإعادة إنتاجها. طالما أن الوجود الإنساني مشروط بالإنتاج الإنساني، فهو تاريخ عبودية وإعادة إنتاجها. مقولة العمل الإنساني هي مقولة سيدة في هذه الحيثية، فطالما الإنسان ينتج شروط وجوده وكينونته، فهو -حكمًا- ينتج شروط اغترابه واستبداده وعبوديته. يحيلنا الكتاب في أكثر من موقع، بشكل واضح، إلى هذا التضاد وهذه الحقيقة التاريخية، ويحيلنا أيضًا –وهذا مهم- إلى السلاح الناجع الذي يجب أن نتسلح به في هذه المعركة الدائمة والمفتوحة مع الحياة، والتي يجب كسبها على الدوام. ولعل أوضح هذه الإحالات هو ما قاله الكتاب عن الضمير والوعي والشجاعة، وهذا مركب مهم، فحضور الضمير يعني أن الذات الإنسانية تشكلت، وبالتالي يعني أن الإنسان انتقل، من موقع “النفر” إلى موقع “الفرد” -حسب تعبيرات الكاتب- الذي يوضح أن الضمير، بغياب الشجاعة، لا يكفي لاكتمال تشكل الذات، والضمير والشجاعة، بغياب الوعي، لا يكفيان لاندراج الذات وتحقيقها واقعيًا.


أيمن مراد


المصدر
جيرون