سكان شمال شرق سورية واحتمالات المستقبل



مع إعلان التحالف وميليشيا (قسد) انتهاء العمليات تقريبًا، في محافظتي الرقة ودير الزور وجنوب الحسكة، ضد (تنظيم الدولة الإسلامية/ داعش)، وإعلان النظام انتهاء معركته مع التنظيم جنوبي الفرات؛ برزت تساؤلات متكررة حول مستقبل هذه المنطقة التي دُمّرت مدنها، بنسبة تفوق 70 بالمئة، وحول سكان المنطقة، وقد بات معظمهم مشردين ونازحين.

الباحث في مركز (كارينغي للشرق الأوسط) خضر خضور يوضح، في دراسة أصدرها المركز الأسبوع الماضي، أن: “هزيمة (تنظيم الدولة الإسلامية) لن تمهّد الطريق تلقائيًا أمام عودة اللاجئين إلى شرق سورية. ففي المناطق التي يتمّ فيها إرساء الاستقرار وتشجيع اللاجئين على العودة، تكون للأطراف التي تتحكم في الأمن مصلحةٌ في تطبيق نظام إعادة إدماج، يضمن سلطتها ويُسقط الآراء المخالفة أو أي معارضة محتملة في أوساط السكان”.

يشرح الباحث في دراسته، وعنوانها (العودة إلى أي مستقبل.. ماذا سيبقى للنازحين في سورية)، وقد نشرها في 2 شباط/ فبراير الحالي، واقعَ سكان محافظات الرقة ودير الزور وأجزاء من الحسكة، بعد انسحاب تنظيم (داعش) منها، وسيطرة ميليشيات (قوات سورية الديمقراطية/ قسد) عليها. ويبيّن التحديات التي ستنشأ من فرض هذه الميليشيات لسلطات أمر واقع، والتي قد تتسبب بعدة مشكلات وتوترات، ربما تمتد لتكون قومية أو طائفية، ضاربًا عددًا من الأمثلة، من أهمها أن “عددًا كبيرًا من عرب محافظة الحسكة اعتبر بعض تصرفات ميليشيات (قسد) عمليات تطهير عرقي، تهدف إلى إحداث تغيير ديموغرافي، حيث قامت هذه الميليشيات بتجريف عدد من القرى العربية في ناحية تل حميس، وعلى رأسها قرية الحسينية، عام 2015”.

يضيف الباحث سببًا مهمًا يمنع سكان هذه المحافظات الثلاث من العودة، ولا سيّما أصحاب الخبرات والكفاءات كالأطباء والمهندسين والمعلمين، وهو “مشاعر القلق وعدم الأمان التي تغشى العديد من المناطق التي تحرّرت من قبضة (داعش)، حيث أدى العنف الذي ضرب محافظتي الرقة ودير الزور إلى تحلّل الوحدات الاجتماعية، كالأسَر والقبائل والروابط المهنية، وزعزعة الفضاءات المدنية، وقطع أواصر الروابط بين السكان وبين مناطقهم الأصلية”.

وهذا سيؤدي -برأي الكاتب- إلى “استغلال بعض الأفراد والمجموعات مناحي القوة التي حازوا عليها مؤخرًا، خلال الحرب على (داعش)، في المناطق التي يرغب اللاجئون في العودة إليها، وسيستخدمونها كورقة ضغط في المفاوضات مع الأطراف الخارجية؛ بهدف موضعة أنفسهم كوسطاء، في إطار النخبة الجديدة التي تنبثق الآن من أتون النزاع السوري”.

من جهة ثانية، أكدت الناشطة منى فريج المنحدرة من الرقة، في حديث لـ (جيرون)، أن “هناك رغبة كبيرة، لدى كثير من شباب الرقة، في العودة إلى مدينتهم وإعادة إعمارها، ولكن هناك عدة عقبات تحول دون ذلك، منها أن المدينة ما زالت تعاني من مشكلات كبيرة، كعدم تأهيل البنية التحتية، وعدم إزالة الألغام، وإهمال السلطات القائمة حاليًا لكثير من الخدمات الأساسية. العلاقات الاجتماعية مع سلطات الأمر الواقع، بالنسبة إلى السكان، حاليًا هي علاقة نفعية، مع العلم أن نسبة من عاد إلى الرقة كبيرة، لكن العائدين هم من سكان الأرياف”.

أضافت منى: “هناك تخوّف أيضـًا من عمليات التجييش التي بدأت تنفذها ميليشيات (قسد)، في بعض مناطق المحافظة، وإجبار الناس على الخروج بتظاهرات تأييد لأوجلان، ورفع صور وشعارات (حزب الاتحاد الديمقراطي)، وهذا خارج إطار الثقافة الشعبية والعُرف بالرقة، وهو أمرٌ دخيل، ويجعل بعض الناس تتخوف، وبخاصة في ظل تصاعد الدعاية للتجنيد للقتال إلى جانب (قسد) في عفرين”.

تبرز مشكلة النازحين والمتضررين، من سكان دير الزور والرقة وبعض مناطق الحسكة، بشكل كبير، بعد انحسار تنظيم (داعش)، حيث يشير الباحث السوري عبد الناصر العايد، في ورقة تقدير موقف، نشرها (المركز العربي للدراسات) في  كانون الثاني/ يناير 2018 إلى أن “السكان العرب وقع على كاهلهم الجزء الأكبر من أعباء الصراعات التي عصفت بالشرق السوري، وخسروا الآلاف من أبنائهم، وتحملوا عبء سيطرة (داعش) على مناطقهم، وهُجر من المنطقة أكثر من ثلث سكانها، وخسرت المنطقة جيلها الشاب وكوادرها العلمية”.

يتناول العايد، في ورقةٍ بعنوان (خريطة السيطرة في شمال شرق سورية ومستقبل الوجود العربي فيها)، مواضيع واقعية، منها مسألة الانقسام العشائري الحاد الذي سببه تقاسم النفوذ بين النظام وميليشيات (قسد)، وداعميهم الروس والأميركيين، كما يتناول الضرر الاقتصادي الكبير الذي لحق بتلك المناطق، وخصوصًا في مجالات التعليم والزراعة والصحة.

يضرب العايد في ورقته مثالًا على الانقسام العشائري، بما حصل مع “عشيرة العكيدات البالغ تعداد أفرادها نصف مليون شخص، حيث كانت هذه العشيرة تتمتع بأواصر متينة، ولكنها اليوم منقسمة بين مناطق ميليشيات (قسد) والنظام و(درع الفرات) وإدلب وتركيا وأوروبا ودول الخليج؛ وهو ما يدل على تفكك هائل أصاب الجسم العشائري، في هذه المنطقة”.

من جانب آخر، يرى مازن أبو تمام، مدير وكالة الشرق السوري، في حديث لـ (جيرون)، أن “من المبكر الحكم على عودة الأمور إلى ما كانت عليه. فمثلًا (الشعيطات) في دير الزور يحملون فكرًا ثأريًا، والمسألة معقدة؛ لأن أهل دير الزور ينتشرون في مختلف مناطق الصراع، لكن بشكل عام هناك أملٌ بتهدئة النفوس، وبأن تصبح الحالة الاجتماعية أفضل، وخاصة ما حصل مؤخرًا في منطقة (الشحيل)، حيث قام السكان بإعداد موائد ضخمة للنازحين الهاربين من المعارك في مناطق مجاورة، وهذا الأمر يخفف من حدة المشكلات والتوترات، وبمجرد تأمين الأمور المعيشية وفتح سوق العمل، وتخفيف القبضة الأمنية والعسكرية، وحفظ حدود المناطق من اختراق أمني لتنظيم (داعش)؛ يمكن للناس أن يعودوا إلى ديارهم وأعمالهم”.

أضاف أبو تمام أن “النازحين من بعض المناطق على الفرات ذهبوا إلى مناطق مجاورة، ولم يبتعدوا خارج المحافظة حاليًا، كما يوجد نازحون كثر من خط الشامية، حيث تشتعل المعارك، باتوا حاليًا في خط الجزيرة، وهذا بسبب البنية العشائرية المتماسكة في دير الزور. وتحاول (قسد) حتى الآن مراعاة الوضع العشائري، ويعود هذا إلى عدة عوامل، منها وجود مقاتلين من هذه المناطق في (قسد)، وهو ما يخفف من الانتهاكات في دير الزور”.

لكن العايد يتوقع في ورقته أن “الإدارة الذاتية”، بدعمٍ من حلفائها الأميركيين، تعمل على نوع من “العقد الاجتماعي، تقوم بموجبه بتقديم جزء من ثروة المنطقة التي تسيطر عليها للعرب وأبناء العشائر، عبر الخدمات والتوظيف، مقابل الخضوع السياسي، مع توقّع أن تكون مدينة الرقة هي مركز الثقل الأميركي في المنطقة، وإعادة إعمارها بتمويل خليجي”.

على الرغم من كل الآراء والتوقعات، فإن ما لا يمكن تجاهله أنّ المدنيين، في شمال شرق سورية، يتخوفون من نشوب نزاعات وحروب نفوذ جديدة، بين مختلف الأطراف الفاعلة في سورية، على منطقة الجزيرة السورية وحوض الفرات؛ بسبب ما تختزنه من ثروات نفطية ومائية وزراعية، ويشيرون إلى أن ضرب القوات الأميركية لميليشيات النظام، بقوة هائلة أدت إلى قتل نحو 150 عنصرًا حاولوا التقدم إلى أحد الحقول النفطية، يأتي في سياق تلك النزاعات.


سامر الأحمد


المصدر
جيرون