قاضية تتهم السوريين الذين تركوا البلاد بمخالفة الآداب العامة



ملايين السوريين الذين اضطروا إلى مغادرة البلاد، هربًا من القتل والاعتقال، باتوا اليوم “قليلي الأدب” بقرار قضائي. نعم، بقرار قضائي صدر بتاريخ 18/ 10/ 2016 عن قاضية محكمة الصلح المدنية الأولى بدمشق السيدة مريم عبد الله العرفي، وقد صدر القرار في سياق دعوى إخلاء مأجور لعلة الترك. (القرار حمل الرقم 535 أساس 203 لعام 2016).

في هذه العجالة، لن أتطرق إلى الأساس القانوني لدعوى الإخلاء لعلة الترك، ولا إلى النتيجة التي انتهى إليها القرار المذكور، بإخلاء المأجور لثبوت ترك المستأجر للمأجور، فالقرار صحيح من حيث النتيجة التي انتهى إليها، لكن ما يعنيني ويعني ملايين السوريين هو اتهامهم بـ “قلة الأدب”، لمجرد أنهم تركوا بيوتهم ووطنهم هربًا من الموت والاعتقال.

تقول القاضية في قرارها المذكور: “وحيث إنه لا يجوز لشخص أن يتصرف تصرفًا يخالف به النظام والآداب العامة”، وهنا تستشهد بقول للعلامة السنهوري لتدعم كلامها، ثم تضيف: “ولمّا كان المجتمع السوري نشأ على أن حب الوطن من الإيمان، وهو مبدأ من مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء”، وهذا المبدأ ليس موجودًا في المجتمع السوري وحسب بل في معظم المجتمعات، وتعود هنا أيضًا لتستشهد مجددًا بالعلامة السنهوري، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما علاقة الشريعة الإسلامية؟ وأين هي مخالفة المستأجر للآداب العامة، بقضية “إخلاء لعلة ترك المأجور” التي حدد القانون شروطها، وليس من بينها “حب الوطن من الإيمان”، كما ليس من بينها مخالفة النظام العام والآداب العامة؟

نتابع مع القاضية التي تُسهب في تبريرها لإخلاء المستأجر من العقار، حتى تصل إلى خلاصتها الخطيرة في وصف مَن ترك البلاد بأنه قد خالف الآداب العامة، حيث تقول: “ولما كان المدعى عليه قد ترك البلاد، وهو يقيم في منطقة من أكثر المناطق أمنًا في البلاد، وخالف بذلك الآداب العامة التي استقرت في المجتمع السوري، وهي من الأمور التي يجب لحظها في تصرفات الرجل المعتاد. وترك وطنه الذي لا يُترك حتى في الفقه المدني إلا في حالة طرد العدو له؛ الأمر الذي يوجب الالتفات عن دفع الجهة المدعى عليها لهذه الجهة”.

لا أدري من أين أتت القاضية بهذا الاتهام الخطير الذي يطعن بكرامة ملايين السوريين، لمجرد أنهم غادروا البلاد مضطرّين تحت التهديد بالقتل والاعتقال؟! ويبدو أن السيدة القاضية قد غاب عن ذهنها أنها بهذا “الاجتهاد/ الاتهام” تكون قد خالفت الدستور السوري نفسه المعمول به الآن، والذي أكد على حرّية التنقل داخل سورية وخارجها، في المادة 38 منه، ولا بأس من إعادة نشر نص المادة، ففي الإعادة إفادة لمن فاته الاطلاع عليها:

1 – لا يجوز إبعاد المواطن عن الوطن، أو منعه من العودة إليه.

2 – لا يجوز تسليم المواطن الى أي جهة أجنبية.

3 – لكل مواطن الحق بالتنقل في أراضي الدولة أو مغادرتها، إلا إذا مُنع من ذلك بقرار من القضاء المختص أو من النيابة العامة أو تنفيذًا لقوانين الصحة والسلامة العامة.

هذا من ناحية مخالفة الدستور، أما من ناحية الشروط الواجبة الإخلاء لعلة ترك المأجور، فلم يضع المشرع السوري، في جميع قوانين الإيجارات التي سنها منذ عشرات السنين، عبارة “مخالفة الآداب العامة”، كسبب موجب للإخلاء لعلة الترك.

تُرى هل كانت القاضية مضطرة إلى هذه الفتوى الخطيرة، لتعليل قرارها بإخلاء المستأجر من المأجور؟ أم أنها تريد أن تتماهى في موقفها مع موقف النظام من قضية ملايين السوريين الذين اضطرتهم الظروف إلى مغادرة سورية خلال السنوات الماضية؟ وبالرجوع إلى مجريات الدعوى والأدلة المطروحة فيها؛ يتضح أن السيدة القاضية لم تكن مضطرة قط إلى اتهام السوريين الذين تركوا بلادهم بأنهم ارتكبوا جرم مخالفة لآداب العامة، وهو الأمر الذي سيضعها في مواجهة ملايين السوريين الذين طعنتهم في كراماتهم، فالأدلة القانونية الموجبة للإخلاء لعلة ترك المأجور كانت متوفرة في القضية، وكافية للحكم فيها دون أن تضطر إلى قول ما قالته.

أثار القرار المذكور بمجرد نشره جدلًا واسعًا بين مؤيد للنتيجة التي انتهى إليها الحكم، ورافض في الوقت نفسه التعليل، وبين متهكم وساخر؛ فكثير من المعلقين المهتمين بالقانون قالوا: “نتفق مع النتيجة، وﻻ نتفق مع التسبيب، حيث إن قانون الإيجار هو قانون مجحف بحق المؤجر، ويحرمه من ملكه بغير سبب وجيه، وهذا القرار يعتبر كل من ليس معنا هو ضدنا. ومن كان بقاؤه يشكل خطرًا على حياته، ﻻ يعني خروجه أنه قليل الأدب، وإنما لأنه قال كلمة حق في وجه ظالم”.

أحد المعلقين قال: “كان أولى بالقاضي أن يُعلل قراراته وفقًا للقانون، وفِي هذه الدعوى، يوجد أكثر من سبب للإخلاء، فلم يكن من داعٍ للاستناد إلى النظام العام والآداب واتهام ملايين السوريين بعدم الأخلاق، هذا قرار قضائي ويمكن أن يستند إليه مستقبلًا، وهنالك قولان: إما أن ذلك التعليل مقصود بشكل كبير وواضح وصريح، وإما أنه نوع من التجني والتشفي بملايين السوريين”.

بينما اعتبر آخرون أن هذا القرار القضائي “سيفتح الباب واسعًا أمام الفتنة، ويجب أن يغلق فورًا، فلا أحد يمكن أن يشعر بظروف الآخرين الذين اضطرتهم ظروفهم إلى المغادرة، ونخشى أن يكون هناك أمر خطير يحضّر في الخفاء لملايين السوريين”.

وتساءل البعض: “بغض النظر عن رأينا في قانون الإيجارات الذي لم ينصف المؤجر، فإننا نستغرب أن يقال إن البقاء في الوطن من الآداب العامة؟ من حقنا أن نعيش في أي مكان، ومثلما نريد”. وكتب أحدهم متهكمًا: “عن جد السوريين اللي غادروا البلاد قليلين أدب.. حدا بيترك أكثر البلدان أمانًا وبيروح!! شر البلية ما يضحك”.

أما الصديق مشعل عدوي فكتب ساخرًا: “العمى إذا ها الحكي صحيح، بكون طار البيت على اعتبار أني قليل أدب، طيب إذا البيت ملك وصاحبو سافر وصار قليل أدب؟ بتصادروا المحكمة؟ يعني يلي مهدد بالاعتقال لازم ما يهرب، ويروح يسلم حالو بصيدنايا مشان ما يعتبر قليل أدب!!”.

في الحقيقة، لم أجد تفسيرًا قانونيًا لهذا التصرف من القاضية، سوى أن هذا الكلام الاتهامي يتماهى تمامًا مع ما يطرحه ويردده النظام السوري ويدعم موقفه، ويطعن في المقابل بكرامة ملايين السوريين الذين اضطرتهم الظروف إلى ترك بيوتهم وأرزاقهم ومغادرة بلادهم من أجل أن يبقوا أحياء بعيدًا عن القتل والاعتقال والدمار.


ميشال شماس


المصدر
جيرون