أسبوع الملك



سأملك العالم والقطار الذي ستدور عجلته بي، وأجري حوارًا مفيدًا مع سكته الطويلة، سيجر الأسبوع من أذنه نحو غدي الذي ولدت فيه، نحو أناي البسيطة في مسرح الكون وساحة القتال، حيث لي حيواتٌ أخرى في الأخضر، وتتمشى روحي في فحيح غيمته.

رجلٌ محظوظٌ مثلي ينجو بكل طيوره النحاسية، ينفع أن يحكم العالم، ولو لسبتٍ واحدٍ، ولو لخطوةٍ واحدةٍ في السعادة، رجل محظوظ مثلي يملك حجر الأمنيات، يحرك الريح جهة شماله، ويحيا ليكون آخر الملوك يوم الأحد، رجلٌ محظوظٌ مثلي يتنزه في فلوات نفسه، يعلم أن العالم صغيرٌ على ملكٍ مثله، وأن الوقت صفر العدم، وخطوةٌ نحو الفراغ!

الحقيقة الوحيدة سوى أني أمدح الأنقاض وأبني فوق الوهم قصري: رجلٌ عظيمٌ يتدلى من سماء الأحلام، يشِم بالنار خرائطَ الماء لينجو بالغرق من القلق! ويشيد من اليباب كل هذه الحديقة، ومن السراب الأفعى كل هذي الواحات، ومن الأنهار الجافة هذه الرواية الطويلة لأناسٍ عاشوا، ثم ماتوا، ثم عاشوا يتامى إلى أن جاءت الحرب بقتلاها من الآباء.

السبت، حزانى إلى البرزخ يسرعون، لهم أوجاعهم وعيون مدماة، تنفع للكاميرا، أكثر مما تنفع الحياة، هاتوا بيناتكم أقول أنا الذي صدق المتعبون أنه ملكٌ، وكل هذه المقابر رسوم إشارته. الحقيقة أنا كائنٌ من عشبٍ في أغلب حالاتي، ينكسر مثل قلب الغزالة الأم، ينطفئ مثل شمعةٍ في قارب، يغرق إذا لم يجد يد أنثى تنقذه، وله عين قناصٍ وقلب ذئبٍ، يقف مع السائرين إلى البرزخ على باب القيامة، ويفشل أبدًا في قتل أحدٍ سواه.

كائنٌ هش، والمارة الذين آمنوا به، وربطوا على قلوبهم بعض حكمته، صنعوا له من طيش خزفه تمثالًا ثم حطموه، لئلا يتسلل الأعداء إليه ويكسروا فيه إيمانهم! كان ملكًا، ومن تخاريف الدهشة مصنوعٌ تاجه، وله أتباعٌ مثله، يخوضون خلفه في الغبار والطين والأقاويل، ومثله يعلقون أحذيتهم كالأوسمة على صدر الحرب، وينجون صدفةً، أو نجوا بفعل الدعوات، يقول مؤمن غشيمٌ في داخلي: الإيمان طاقةٌ، ويقول الملحد في داخلي: الحديقة بنت الطبيعة أنقدتني!

السبت، سأعرف أنني لست حجرًا نبيلًا، يشع في ليل الحكاية وزهو الخرافات، ولست صلدًا لأصطدم بالنافذة وأبقى عزيزًا، ولست مقدودًا من آبدةٍ ليقرأني الآثاريون، وأنا أحدٌ يبكي، ولي قلبٌ يتشظى في المعرفة والصلاة، ولي إمامٌ يقودني إلى التهلكة ولي شيطانٌ، يجمل المفازات، فأضيع، وأهلك، وأعطش، وأصيب، وأخطئ، وأنجو، وأزرع، وأحصد الهواء، وأنمو في الزراعيات مثل سرخس، وتأكلني الرطوبة والديدان، وجوف الأرض، وجنة الأرض ونارها، وأوزع على أيام الأسبوع مثل تركة المعركة: غبارًا ثقيلًا يجر غبارًا ثقيلًا/ أسلحةً لامعةً وأخرى صدئةً/ صورًا للقتلى وأخرى للشهداء/ صورًا للأطفال في جيوب الآباء/ شهواتٍ ذليلةً في آخر مني الجنود/ صورًا للنساء يحرضن أنوثتهن بالذكريات.

قبل السبت، أعرف الجمعة الحزينة: نافذةً تصطك بنافذة، حقولًا سيالةً في السهل، سائلًا يفيض بأهله على أهله، وحمادًا واسعةً تضيق، ثم تضيق، ثم تضيق. وفي الجمعة، كنا نفتح نوافذنا للحزن والريح والطير، وننثر حنطة الوقت في فناء الدار، ونقول: “للطير وما قسم الله”، ما كنا نعلم أن هذا القليل/ الكثير الذي وهبناه للحيوان والطبيعة، سيحتاجه إنسان الحرب!

بعد السبت/ الأحد/ يومٌ ثقيلٌ في كنف الشمس والحرب/ تعويذةٌ مؤلمةٌ تتجه نحو الغروب الكثير/ سماءٌ شحيحةٌ تأخذ مكانها في التقويم/ أمنيةٌ بقدمين مبتورتين ووجهٍ وشجرة/ مرآةٌ مفتونةٌ بضحكة الثعلب وغدر الجدار/ استعار الكلام، نوم اليباب وروان النار/ والأحد شامة الأسبوع البنية.

الاثنين، مثل حجرةٍ تتدحرج أعلى، أدرج على سلم الأساطير، لأنجو من الحقائق، أطوب باسمي أرضًا نظيفةً من الخيانات، وأتدحرج لأصل الأصدقاء، وأنجو بهم، يقول أحد ما، ربما حارس مقبرةٍ أو ناجٍ من معركة الثأر: لتنجو معهم، أقول: لأنجو بهم، وأقول على الضفة الأخرى رتبت حياةً لهم، لاتستقيم حياتهم بدوني ولاحياتي بدونهم، لا لبس في هذا البوح، سوى أن أصدقائي يحبون هشاشتي، وأنا والجنود لا نحب الهشاشة ويوم الأحد، لذلك نتقاتل في العتمة، ونتصالح في شغب اللغة والتآويل!

يوم الأحد تخلص الإجازات/ يوم الأحد استراحة الرب..

الثلاثاء، سيرأف أحدٌ بي، ستمر يده مثل حزنٍ فوق وجهي، وسنذهب سويًا إلى لاشيء ولا أحد، نحن الآن أقل من الممكن، مقعدان يتبادلان الأغنيات، ورسوم الأطفال في دفاتر الأهل المنكوبين، ولا أحد سيؤثث الجدوى -هذا اعتقادنا- إلا العشاق، إلا طويلو الظلال والبأس. لربما نمتلك بعض الوقت، سنمتلك ربما، ونحصي الشهداء، من نسميهم شهداء، وغيرنا يسميهم قتلى، وقد نفرح ببقية الأهل، وصلوا متأخرين، ولم يموتوا على الطريق.

الثلاثاء أيضًا يومٌ جليلٌ، يشبه الخزف في قوامه، أداري عاطفته الجياشة لئلا ينكسر، أو يصاب بالخيبة مثل أرضٍ صارت بعيدةً ويلفها السراب. وفي يوم الثلاثاء ولدت أنا وشجرة في الحديقة، وصرنا توأمان، هي تحمي العصافير وأنا آكلها، هي تشيع الخضرة وأنا أشيع الفأس وأهوي بها، هي تحاور عاشقين وأنا أنصب الكمائن لهم! هي الثلاثاء الأنثى، وأنا الثلاثاء الذكر، ملكٌ موهومٌ ولا أرض لي.

الأربعاء، أعين الجسارة التي أخذتني هناك على حملي، أسمي المقابر المشتولة في روحي مثل الأفكار، أسميني اسمًا آخر، وأمنحني تاريخ ميلادٍ جديدٍ، وأعيش في كنف ما أراه انتصارًا، وما يسميه الآخر: رحلة الخسران…

الأربعاء يومٌ عالٍ، عالٍ جدًا، يسبق الخميس، تقول جدتي: هو يوم الموتى الذي في ذمتنا، انظر في التراب، سترى فمًا وعينين، فقل ما تريد، اسرد قصتك، قصتك مع الأصدقاء، قصتك معهم، الحنان الذي لم تنله منهم، اطلب حصتك من حليب الأم، وحصتك من حكمة الأب وطيشه، ثم غني ليفخر بك ذووك من الموتى، لتكون ابنًا صالحًا، يكتب، ويغني، ويذر حظوظه من السعادة على الشوك، حين ريح.

(تناصٌ بائس مع نصٍ قديم).

الخميس يومي، ويوم الموتى، توفيت أمي قبل أكثر من ثلاثين عام، في مقبرةٍ على أطراف القامشلي، ضاعت شاهدتها، واندرس القبر، غير أن خميس الزيارات، يدلني عليه، كطائرٍ حر، يحدد من علٍ مكان بيضته، قال لي حارس المقبرة مرةً: الموتى الذين نحبهم، تصلنا رائحتهم. لم أصدقه، إلى أن رأيت غمامةً بيضاء فوق رأسي، كان وجه أمي المستدير يسكنها!

الخميس، المرأة الشغوفة بأحزانها وبي ربت أجراسًا لينةٍ تدن في رأسي، وخاطت لي من الماء سترة الشتاء، كانت تخاف علي من البرد والذئاب والكذب، المرأة التي حملت قنديل شهوتها، وقادتني إلى مخدعها، المرأة التي تزوجتها ذات رغبة حقيقيةٍ في العائلة/ العاهلة، وأهديتها نطفتي عبر ريح حنون، وأهدتني أولادًا يلهجون باسمي في الأحلام وفي الحقيقة، المرأة التي تدأب أن تبني لي بيتًا، له قوام العش، وصلابة المعدن، ومكر النساء، ورهافة النبات قرب الينابيع، المرأة من سنينٍ تنهار عليها الجبال والشعب والأهواء والأمزجة، وطعنات الأخوة وزلات اللغة، وغدر المسافة بين قارتين أو بلدين أو مدينتين، قالت: ميزت نطفتك، كانت دؤوبةً ولها جلد الملوك، ففتحت لها وآويتها.

في هذا الأسبوع، تنفتح بوابة الهاوية، ست سنينٍ من النوافذ، تتهاوى من يدي مثل ورقٍ خفيفٍ، ينزف حبره، ويسيل على جنبات السحيق. أصيح -بكل النقائض والأضداد، سكنتني مثل أرواحٍ عمياء- لأراني في القرارة، وقد سلت قبل الحبر إلى هناك.


محمد المطرود


المصدر
جيرون