الحرب النفسية.. أداة للعودة للأسد



يلخص العالم والسياسي الفرنسي Nicolas de Condorcet دورَ الخداع والكذب في الخضوع للسلطة، بقوله “كلما كان الإنسان متنورًا؛ تضاءلت نسبة التلاعب به من قِبل أصحاب السلطة، فالحقيقة إذًا عدوة للسلطة ولمن يستخدمها، وكلما انتشرت بشكل أوسع؛ تضاءلت قدرة هؤلاء على خداع البشر، وكلما ازدادت الحقيقة قوة؛ تضاءلت حاجة الشعوب إلى أن تُحكم من أن تَحكم هي نفسَها بنفسِها”.

ما هي الحقيقة التي يحتاج السوريون إلى معرفتها اليوم، وسط واقع محاولات إعادة ربط النير على أعناقهم بعد أن كُسر، وبعد إغراق القضية السورية بالأخبار الكاذبة، لإخفاء الحقائق ومحاربة إظهارها؟ ما البوصلة والمنارة وسط هذه الحرب النفسية على من يرفض العودة إلى المعتقل الكبير في ظل الأسد؟

لا تستهدف هذه الحرب النفسية العسكر والمسلحين بتداول أخبار ميدانية كاذبة، كما هي وظيفة الإشاعات المتعارف عليها بالحروب، بقدر ما تستهدف فئتين هما:

المدنيون أولًا، بترهيبهم من كل ما يتعلق بالثورة السورية وربطه بالإرهاب والتطرف؛ لإسكاتهم عن أي ظلم يحل بهم أو ظروف حياة شديدة السوء التي يعيشونها أو عن فقدانهم لأبنائهم وبناتهم عبثًا دون جدوى؛ فيدخلون في فقاعة من الوهم لا قدرة لهم على اختراقها ومواجهة الحقيقة، أو ربما يتغاضون عنها لضمان السلامة المؤقتة، وتأمين معيشة الحياة اليومية، رغم أن رؤيتهم للحقائق بإمكانها تغيير التوازن، وستشكل دافعًا لرفض الواقع المفروض، ولاستلام زمام الأمور لتحقيق شروط حياة أفضل.

أصحاب الرأي ثانيًا، الطامحون إلى تغيير جذري في المجتمع السوري، وتحريره من القيود الاجتماعية المفروضة التي ألزمته بقبول نظام الأسد، وبقبول التطرف الديني الذي عززه النظام لضمان بقائه، وألزمته أيضًا بقبول الفساد الاقتصادي الذي رسَّخه النظام، لامتلاك النفوس والذمم لصالحه، فهي عوامل قوته التي يسقط بسقوطها النظام حكمًا. فتُعتبر هذه الفئة هي الأخطر بالنسبة إليه، وهي التي تضمن استمرار الثورة، خصوصًا بعد ضمور مظاهر العسكرة، وبعدم وجود هامش سياسي مؤثر اليوم لأي حراك دبلوماسي من أجل سورية، وتتضمن هذه الفئة كل من استطاع إظهار الحقيقة للسوريين المواليين وللمجتمع الدولي، من دون حاجة إلى السلاح، عن طريق القانون، التجمعات السلمية، حلقات النقاش والتفكير، الأعمال الفكرية والكتابية، الأعمال الفنية بجميع أدواتها. حوامل هذه الأعمال هم الدليل القاطع على أن الثورة ليست متطرفة، وليست تقهقرًا من سيئ إلى أسوأ، بل تغيّرًا نحو الأفضل الذي يستحقه الشعب السوري.

يُدرك المدافعون عن النظام هذه الحيثية، ومن هنا جاءت الحرب النفسية تجاه هذه الشرائح على عدة محاور، أشدها وأكثرها تكرارًا هو محاولة اتهام كل من يدعم الثورة، بدعم التطرف الديني وفصائله المختلفة، في حين أن وضوح التوجه العلماني العقلاني لهذه الشريحة كان أوضح من أن يتم التلاعب على هذا الوتر.

يُضاف إلى ذلك محاولات صبغ المصالحة مع النظام بكونها سعي لإيقاف القتل، أمام رفض العالم بالاعتراف بحق السوريين بالانتقال من نظام حُكم استبدادي إلى نظام حكم حديث، ويُتهم الرافضون لهذه المصالحة، بأنهم يطيلون مدة عذاب السوريين، وبأن المصير محتوم ببقاء الأسد، في نقيض لأي منطق أخلاقي لتحميل من يطالب بالعدالة وبتحييد المجرم وبمحاكمته مسؤولية استمرار وقوع الجرائم، يتجاهل هذا الاتهام واقع أن النظام لن يتوقف عن مجازره بل سيرتكبها بالخفاء من جديد، مع إضافة وطأة الانتقام لها أيضًا.

يندرج ذمُّ التعبير عن الرأي على وسائل التواصل الاجتماعي، كـ (فيسبوك) و(توتير)، تحت بند إسكات هذه الشرائح أيضًا، فعلى الرغم من وجود ظواهر سلبية كثيرة على وسائل التواصل، لكنها تُعزَل شيئًا فشيئًا، وتضمر وتبقى الإيجابيات أكثر في ميزان تأثير وسائل التواصل الحديثة، فقد تبين أن تبادل الآراء عبر هذه الأدوات فاعل وسريع، وتوضّح أنها تسمح بتكوين تيار رأي جماعي، حُرم منه السوريون طويلًا، بالإضافة إلى أنها باتت وسيلة تعبير عالمية سياسية، يتعامل عبرها معظم سياسيي العالم والرؤساء. رغم ذلك، نجد أن هناك من يهاجم كل من يكتب على وسائل التواصل، بوصفهم “ناشطين فيسبوكيين”، وبأنهم جميعهم مزايدون أو عديمو الحيلة، في محاولة لخفض أهمية هذا التبادل بالرأي وإسكاته، وذلك، لحسن الحظ، غير ممكن مع وجود نصف الشعب السوري خارج سورية، وتواصله عبر هذه الوسائل، فمن البديهي والطبيعي تداوله قضايا سورية واستنكاره إبادة السوريين، ولا يندرج ذمُّ هذا الأمر إلا تحت بند محاربة حرية التعبير، كما في النظم القمعية تمامًا.

لإظهار الحقائق تأثير كبير في مواجهة هذه الحرب النفسية، خصوصًا مع فقدان كثيرٍ من القنوات التقليدية المحلية والإقليمية مصداقيتها؛ ما أدى إلى التفات شريحة كبيرة عنها إلى مصادر أخرى لتكوين الرأي أو للتأثير فيه، وليس ذلك فحسب بل هي جزء من مسار تحرر سورية، من سيطرة السلطة على عقول الناس وحياتها ومواردها ومستقبلها، وتلك مسؤولية كبيرة يحملها كل من حمل على عاتقه مهمة السير بسورية على مسار الحداثة والتقدم.


سميرة مبيض


المصدر
جيرون