“ليسقط العالم ومجلس الأمن” وثقافة القتل أيضًا



لم تكد تنتهي مهزلة سوتشي البوتينة بفشل سياسي كبير، حتى بدأت حملاتها العسكرية المتعددة على ريف إدلب والغوطة الشرقية، المناطق التي ضمنتها هي ذاتها، كراعية سلام مزيف، كمنطقة خفض تصعيد. الآلة العسكرية البوتينية تعود للعمل، بكامل ثقلها العسكري والحربي، في مشهدٍ يعيد إلى الذاكرة كارثة حلب قبل عام ونيف، ليأتي تعطيل اجتماع مجلس الأمن مؤخرًا على إعلان هدنة إنسانية في سورية لمدة شهر؛ بسبب رفضها لذلك أيضًا، مشهد يعود بالذاكرة إلى “الفيتو” المزدوج والمتتالي خلال أقل من شهرين، أواخر عام 2016 في أثناء عمليات حلب. عيون السوريين المراقبة للمشهد تكرر الدعاء ذاته والأمنية ذاتها: ألا يتكرر المشهد الكارثي في الغوطة كما حدث حلب يومئذ، وفي الأثناء، لم يتوقف المشهد الدموي الكارثي إلا جزئيًا، فها هي المجازر الجماعية والعائلات بأطفالها، لم تنج بعد من الموت المحتم، وعداد الموت لا يتوقف.

في الخلفية السياسية للمشهد، الخلفية المعتمة كالحة الظلمة، ثمة محاولات عدة لتفسير ما يجري، فقد أرادت روسيا تتويج نصرها العسكري بنصر سياسي، عملت عليه مرارًا وتكرارًا، فمنذ أواخر عام 2016، وبعد إعلان حلب مدينة منكوبة عالميًا -كما كانت غروزني ذات يوم- سعت روسيا بكل ثقلها السياسي، في اتجاهات عدة، لوضع لمسات كبرى على غايتها النهائية من خلال سورية:

– في مسار المسألة القانونية والدولية، على مستوى مجلس الأمن والأمم المتحدة، استخدمت روسيا حق النقض الفيتو 11 مرة، لعرقلة أي حل سياسي للمأساة السورية، كما وسعت لأخذ الاعتراف الدولي بمرجعية مؤتمر سوتشي واستبدال مقرراته بمقررات جنيف، وإن لم يكن كليًا وبشكل جزئي، حتى تضمن موافقة دولية عليه، ومع هذا؛ فشلت في تمريره فشلًا ذريعًا.

– عملت بكل جهد على ترسيخ مبدأ التفاوض المستقل والمفكك، بحيث تتفاوض مع القوى العسكرية للمعارضة في أستانا، تحت شعار إحداث مناطق لخفض التوتر والتصعيد، واستمرت جولاتها ثماني جولات ماراثونية متتالية، بدأت منذ أوائل 2017، أي بعد نصرها المزعوم في حلب، حتى أواخر العام ذاته وقبيل سوتشي أيضًا. وفي الجهة الأخرى تابعت ملفات التفاوض السياسي بجنيفات ثمانية أيضًا، وعملت على إفشالها كلية، وكل ذلك بغية الوصول في خطين متوازيين إلى سوتشي، وعنوانه الأبرز: خسارة عسكرية تتلوها خسارة سياسية وهزيمة ثورة ورضوخ متكامل الأطراف.

– سعت لترسيخ مبدأ المصالحات الوطنية المزعومة، في الكثير من المناطق الداخلية في سورية، زادت عن 1100 منطقة، سعت من خلالها لتفريغ مناطق الثورة من نقاط ضغطها العسكري عليها؛ بغية تمرير سطوتها السياسية عليها مجددًا، تحت عنوان معادلة: الموت كما حلب أو الاستسلام والمصالحة.

– بعد ضمان استقرارها على مياه المتوسط، عبر قاعدة حميميم وميناء طرطوس بمعاهدة استخدام واستعمال لمدة 49 عامًا قابلة للتجديد؛ سعت بشكل جيوسياسي لربطه بريًا عبر بوابة البوكمال السورية، لتكمل الخط البري لها من موسكو فطهران فبغداد للساحل السوري مرورًا بالبوكمال؛ فدخلت بالتوازي مع قوات التحالف في الحرب على (داعش)، في هذه المنطقة فقط، وهي التي لم تقصف سوى مواقع الثورة بحجة الإرهاب، طوال مدة وجودها العسكري في سورية.

– استطاعت الاستفادة من الخلل التركي-الأميركي صيف عام 2016، واستمالتها لتكون شريكًا في عمليات التنسيق الجيوسياسي، بينها وبين إيران داخل سورية، بحيث تضمن أي عرقلة تركية لمسارات عملها العسكرية والسياسية داخل سورية، خاصة أن الأتراك يقعون تحت ضغط الولايات المتحدة الأميركية بالورقة الكردية، ولا سيما حزبي (الاتحاد الديمقراطي الكردي) و(العمال الكردستاني) الكردي، وتمكين وجوده الانفصالي على حدودها الجنوبية؛ ما يهدد باستقرارها الداخلي في العمق التركي، بوجود مناطق واسعة للأكراد بداخلها، تربو عن 15 مليون كردي. وتحت ضغط آخر هو تمدد الإرهاب في داخلها المتمثل بـ (داعش) وقوى التطرف الديني أيضًا.

اليوم، بعد فشل المساعي الروسية متعددة الخطوات لوضع حل سياسي للمسألة السورية على طريقتها بسوتشي؛ تعود روسيا لترمي بثقلها العسكري مجددًا في الغوطة وريف إدلب؛ ما يجعلها تنتقل من فرضية الحل السياسي أو النصر السياسي -كما كانت تريده بطريقتها بعد نصر عسكري جزئي والكثير من معادلات التفوق العسكري في مقابلة ما يسمى بالمصالحات- إلى ضرورة العمل على سحق عسكري كبير في الداخل السوري، خاصة في محاذاة تفاهماتها مع كل من أميركا وتركيا، بحيث تبقي على النفوذ التركي المحدود في شمال سورية والمعمول به اليوم، في موضع منطقتي عفرين غربًا وصولًا إلى منبج شرقًا غرب الفرات، والنفوذ الأميركي بذراع كردية ميليشيوية شرقي الفرات، مع تشكيل سياج عازل لها في منطقتي ريف حلب الغربي وإدلب الجنوبي، بعيدًا عن أماكن تواجدها العسكري الفعلي قريبًا من الساحل.

هل تستطيع روسيا الاستمرار في حملاتها العسكرية إلى نهاياتها؟ سؤال تختلف التحليلات والتكهنات حوله، فربما تمضي به إلى النهاية كما في حلب، أو تتوقف مرحليًا عنه كما كان باتفاق الجنوب السوري صيف 2017، وهذا مرهون بعاملين رئيسين: الأول تفاهمها مع الأميركيين فيه ومن خلفه السعودية بشكل وثيق، وهو يمنع حدوث تجاوزات بينهما خاصة في الغوطة الشرقية، والثاني قدرتها على التقدم بملف الحل السياسي مرة أخرى بطريقتها هي، وتبرز للعيان مرة أخرى معادلة فرط القوة: إما حل سياسي روسي منفرد وبغطاء أممي، وإما الكارثة والدمار والقتل في كل مكان، في مشهد يعيد إلى الذاكرة كل صنوف الهمجية والبربرية التي سادت في القرن التاسع عشر، وفي الحربين العالميتين، وينذر بكل صلف بتفريغ المعادلة العالمية من كل ثقافة حقوق الإنسان وحق تقرير مصير الشعوب التي أرستها مواثيق الأمم المتحدة التي أنهت حروبًا كارثية!

لافتات كفرنبل، التي أدهشت العالم في ثراءها الفكري والثقافي منذ بدء الثورة السورية، تعود اليوم إلى حضورها الكبير لمقدمة المشهد، فالبلدة وجيرانها في سراقب وجرجناز وغيرها كانت منارة كبرى لسلمية الثورة، وفكرها المدني النابع من روح الثورة السورية، بلا تصنيفات سياسية أو تنافس على أسبقية أيديولوجية خلاف أخرى، هي تلك المناطق ذاتها التي يتهمها الإعلام و”علمانيو” الانتفاعية القذرة بالإرهاب والتطرف، و”شيوعيو” التسطيح العفن والمرض الخبيث الذين يعزّون بطيار روسي، أسقطته الدفاعات الأرضية للمعارضة، ولا يمكن لأحدهم سوى ممارسة “العواء” الفكري، و”المواء” السياسي و”الثغاء” الشعري، في سابقة كبرى تفرغ كل محتويات الفكر والأدب الإنساني من محتواه القيمي، لتسقط في نرجسية فاقعة وسادية مقيتة، تتلذذ بموت الأطفال وتهجير الناس من مساكنهم، وتصفق لثقافة القتل وتنشد شعر الغزل أيضًا! إنه زمن الانحطاط والتسطيح. والثورة خلاف هذا ومسارها عكس هذا كلية. “ليسقط العالم، ولتسقط جامعة الدول العربية والأمم المتحدة ومجلس الأمن أيضًا، ولتسقط شرعة حقوق الإنسان العالمية، وليسقط كل شيء أمام هذا الموت المعلن”. هكذا كانت لافتة كفرنبل قبل خمسة أعوام، وها هي اليوم تعود إلى المشهد ذاته، وأضيف: لتسقط ثقافة الموت والزيف والخواء الإنساني.


جمال الشوفي


المصدر
جيرون