تقسيم سورية أم ماذا؟



العديد من السوريين واثقون من أن سورية لن تُقسّم؛ لأن ذلك يتناقض مع الواقع والمنطق والتاريخ والجغرافيا. وإذا سألنا السوريين؛ فإن أغلبيتهم المطلقة، من معارضة وموالاة ومحايدين، سيقولون لا للتقسيم. وهذا كله يدعو للفخر والاطمئنان إلى أن تقسيم سورية، والمساس بوحدتها أرضًا وشعبًا، ليس موضع جدل، وخارج دائرة الصراع. علمًا أن الأسد الخائن باع سورية لإيران وأتباعها من ميليشيات ولروسيا، بشكل خطي وموثق ولعدة عقود قابلة للتجديد. حتى إن الأسد قال يومًا إن سورية هي لمن يدافع عنها وليس لمن يحمل جواز سفر سوري. وبالطبع هو يقصد الميليشيات التي تدافع عنه شخصيًا، وعن كرسيه وليس عن سورية البلد والشعب والأرض. وإلا؛ كيف سمح لكل حثالات العالم بتدنيس الأرض السورية، لتقتل وتمارس الجرائم تحت رايات مقيتة. والشيء نفسه مع روسيا التي احتلت سورية بذريعة أن وجودها شرعي؛ لأنه جاء بدعوة من حكومة الأسد الشرعية. وهذا كلام نظري لا يمت إلى الواقع والأخلاق بصلة، فالأسد الذي استلم الحكم من أبيه بالوراثة لم تعد له أي شرعية، من منظور القانون الدولي والشرائع والقيم الإنسانية. وباختصار، هو مجرم حرب يجب تقديمه للعدالة.

هناك أطراف رفعت راية المعارضة والثورة، وعملت على تسهيل دخول الأجانب إلى سورية. وكذلك دول إقليمية ساهمت أو ساعدت في تدويل القضية السورية، وبالتالي عمقت هوة الصراع الذي أخذ طابعًا إقليميًا ودوليًا.

ما حدث مؤخرًا من أحداث في سورية، بدءًا من ضرب القوات الأميركية للميليشيات الطائفية الداعمة للنظام ومقتل حوالي 200 مقاتل منها، ثم إسقاط مقاتلة روسية سو-25 في مناطق إدلب ومقتل طيارها، ويقال إنه تم إسقاطها بصاروخ تسرّب من (حزب الله) أو أميركا. إضافة إلى التوجهات الأميركية المعلنة في تشكيل حرس حدود للمناطق الشمالية الشرقية يصل عددها إلى 30 ألف جندي، والإعلان عن تشكيل حزب سياسي عربي، إضافة إلى “حزب الاتحاد الديمقراطي” (الكردي)، وترتيب الإدارة المحلية لـ “إقليم شرقي الفرات”، واستجلاب عدد من الخبراء الأميركيين لإعطاء صفة دبلوماسية لهذا الإقليم المزعوم.

من جهة أخرى، ضربت إيران جذورها في الأرض والجغرافيا والمجتمع السوري، على مرأى من روسيا وأميركا وتركيا والنظام. كلهم يرون كيف تخترق إيران الجسم السوري كدود الخل، لتنخر فيه وتخلق بؤر توتر للمستقبل مثلما حدث في العراق. وإلا؛ ماذا يعني إطلاق إيران لطائرة بدون طيار إلى (إسرائيل)! الهدف منه جرّ (إسرائيل) لقصف سورية وصبّ الزيت على النار المشتعلة في المنطقة، أليس ذلك تعبيرًا عن شكل من التقسيم إلى دويلات: أميركية في شمال شرقي سورية، وإيرانية في وسط وجنوب البلاد، وروسية في الساحل السوري، وتركية في الشمال السوري، و و و.

هل يمكن تصديق أن أميركا وروسيا تريدان وحدة سورية وسيادتها، بعد كل ما فعلوه من توزيع مناطق النفوذ، وتكريس التقسيم على أساس إثني أو طائفي أو جغرافي؟!

يصرخ ممثلو الدول ليل نهار بأن أولى أولوياتهم هي سيادة سورية ووحدة أراضيها، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وأن السوريين هم من يقرر مصيرهم. ولكن ما يحدث في الواقع هو عكس ذلك تمامًا؛ فهم من اخترق سيادة سورية، وتدخلوا فيها ليس سياسيًا فقط وإنما عسكريًا، وهذا نوع من الاحتلال. فهل يستقيم الاحتلال مع السيادة والاستقلال؟ وهل تشكيل لجان لوضع دستور لسورية في فيينا أو سوتشي ينسجم مع إرادة السوريين؟ إن السوريين شاركوا في إعداد ميثاق الأمم المتحدة في 1945 وسورية تحت الانتداب الفرنسي، فهل يعجز السوريون اليوم عن تقرير مصيرهم بنفسهم، وكتابة دستور عصري لبلادهم؟

الحقيقة أن جوهر المشهد السياسي الحالي هو أن الدول الكبرى والإقليمية كشفت عن أجنداتها في الحصول على جزء كبير من الكعكة السورية. ولا يهمهم أبقيَتْ سورية موحدة أم مقسمة. وماذا يعني وجود قواعد عسكرية روسية في الساحل والمناطق الوسطى، وإيرانية في مناطق دمشق ووسط سورية؟ وماذا تعني القواعد الأميركية في شمال وشرقي سورية… هل هذا تعبير عن الحرص على وحدة سورية وسيادتها؟!

منذ أكثر من سنة طرحتُ فرضية، شكك بها البعض، مفادها أن روسيا لن تستطيع تأمين مصالحها والحفاظ على وجودها في سورية إلا في ظل التقسيم. فوحدة سورية ستعرض مصالح روسيا للخطر على المستوى الشعبي والميداني.

قد تكون الدول الكبرى متفقة على تقسيم سورية، إرضاء لـ (إسرائيل) المخرج الأكبر في المشهد العربي عامة والسوري خاصة. فالمشروع الإسرائيلي الأميركي يقوم على بناء الشرق الأوسط الكبير، وكتاب شمعون بيريز (الشرق الأوسط الجديد) يقول بضرورة تقسيم المنطقة إلى دويلات، على أساس ديني وإثني؛ لخلق مبرر لإعطاء الصفة الدينية اليهودية لدولة (إسرائيل)، ولكي تهيمن (إسرائيل) في المنطقة في كافة المجالات كونها الدولة الأقوى.

كل ما حصل في سورية بتدخل دولي، سواء أكان منحازًا للنظام أم مدعيًا الانحياز للمعارضة، أوصل البلاد إلى حالة تقسيم فعلية. فمن يحرص على وحدة سورية؛ لا يسمح للإيرانيين بفعل كل ما فعلوه، ولا للآخرين بتوزيع مناطق النفوذ وتقسيم البلاد إلى كنتونات.

أعتقد أن ما قام به اللاعبون الدوليون والإقليميون هو تنفيذ لخطة جديدة، تشبه (سايكس-بيكو)، وكل التدمير الذي حصل ما هو إلا تمهيد وترويض لنفسية الناس، لكي يتأقلموا مع الواقع الجديد، على قول المثل “ليس بالإمكان أفضل مما كان”.

قام شعبنا بثورة شعبية وطنية حقيقية. لكن الدول الكبرى وضعت خطة جهنمية لسورية، وأوعزت للنظام ولقوى أخرى بتنفيذها.

سورية بلد الحضارة والتاريخ ومهد الديانات تُمَزّق في القرن الواحد والعشرين؛ لأنها قلب العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط. فلو انتصرت الثورة السورية؛ لغيّرت وجه المشرق العربي، وانتقلت رياحها إلى آسيا الوسطى.

لا أصدق تنبؤات العرّافين، لكنهم (بخاصة الأجانب منهم الذين لم يروا سورية بعينهم)، يذكرون سورية من بين الدول، ويقولون: عندما تشتعل الحرب في سورية؛ فستحدث بعدها أحداث كبرى في العالم تغيّر من حال الدول.

لا توجد دولة تريد انتصار ثورة الشعب السوري، فعصابة الأسد أقرب إليهم، لأنهم ضد حرية الشعوب وضد الديمقراطية في منطقتنا. لكن التاريخ تصنعه الشعوب، وستشرق شمس الحرية، شاء من شاء وأبى من أبى. ولم يخلّد نظام، ولم تدم إمبراطورية في التاريخ.


محمود الحمزة


المصدر
جيرون