تكاليف الحرب السورية: ملخص دراسة البنك الدولي[1] الجزء الثالث: تفصيل في الآثار الاقتصادية وسيناريوهات المستقبل



مقدمة:

هذه المقالة هي الجزء الثالث والأخير من سلسلة مؤلفة من 3 أجزاء، تهدف إلى تقديم خلاصة نقدية لتقرير البنك الدولي عن تكاليف الحرب السورية. وقد تناولنا في الجزء الأول[2] أهمية التقرير ومنهجه وأهم نتائجه، بينما توسعنا في الجزء الثاني[3] في الآثار الاقتصادية والاجتماعية، ونخصص هذه المقالة الأخيرة للتوسع في جانب تقدير التقرير للآثار الاقتصادية للحرب في سورية، حتى بداية العام 2017 مع استعراض سيناريوهات المستقبل.

تحليل آثار الصراع الاقتصادية:

يناقش التقرير في فصله الأخير تفاصيل الخسائر التي تكبدها الاقتصاد السوري، من جراء الحرب. وتسمح منهجية التحليل بإجراء نوع من الفصل الإجرائي، بين ما يمكن تسميته بـ “قنوات التأثير”. وفي الجواب على سؤال: “ما القناة الأكثر أهمية في تأثير الصراع على الاقتصاد السوري؟” يتبع التقرير منهجية للفصل بين ثلاثة تأثيرات: أولًا تدمير الأصول وعوامل الإنتاج المادية، ثانيًا الخسائر في الأرواح والتهجير، وثالثًا القيود المفروضة على التنقل وما يرافقه من فرص ضائعة ناتجة عن تبعثر الاقتصاد السوري. ولأن هذه القنوات متداخلة في الواقع -حيث إن التهجير، على سبيل المثال، هو من العوامل الناتجة والمولدة للصراع في الوقت نفسه، وهذا ما يتعذر قياسه- اعتمدت الدراسة على المنهج التكاملي الذي يساعد في فصل قنوات تأثير الصراع، وتقييم أثر كل منها على الاقتصاد بشكل منفرد. كما أن هذا المنهج يسمح بوضع سيناريوهات، يمكن أن تفيد في توجيه جهود إعادة الإعمار في المستقبل.

آثار الدمار في البني التحتية ورأس المال المادي

من أهم نتائج هذا التقرير، أن تأثير التدمير الكبير (الذي وقع على البنى التحتية المادية) في انهيار الاقتصاد، كان ضئيلًا نسبيًا. ولو كان التدمير قد طال فقط رأس المال المادي، دون آثار أخرى على الأرواح والتنظيم الاقتصادي؛ فإن آثار ذلك على الدخل العام ستكون محدودة، ولا تتجاوز 5 بالمئة من الخسائر الفعلية. والسبب أن ذلك لن يؤثر على الاستثمار، حيث يمكن إعادة بناء رأس المال بسرعة. وتبين عمليات المحاكاة أن الاسثتمارات كانت ستنخفض فقط بنسبة 22 بالمئة، لو كان التدمير محصورًا في رأس المال المادي فقط. ولكن عند إضافة تأثر الخسائر البشرية والتهجير والتبعثر الاقتصادي؛ انخفضت الاستثمارات بنسبة 80 بالمئة. هذا المنهج يسلط الضوء على الفروقات، بين تأثيرات الكوارث الطبيعية وتأثيرات النزاعات الداخلية. إذ إن الأولى تدمر رأس المادي فقط، بينما يكون تأثيرها على أرواح البشر والتنظيم الاقتصادي محدودًا. ويمكن أن يتعافى أي اقتصاد يعمل جيدًا؛ إن تلقى صدمة ناتجة عن كارثة طبيعية. لكن التهجير والخسائر الكبيرة في الأرواح والتبعثر الاقتصادي التي ترافق النزاعات الداخلية تفاقم الأضرار التي تلحق برأس المال المادي.

آثار الخسائر البشرية

يقيّم التقرير أن للخسائر البشرية تأثيرًا اقتصاديًا لا يمكن قياسه. فعلى الرغم من أن نتيجة التحليل تتوصل إلى أن حجم الخسائر الاقتصادية الناتجة عن قناة الخسائر البشرية تساوي تقريبًا نظيرتها الناتجة عن الدمار في رأس المال المادي (أي 5 بالمئة)، فإن الخسائر البشرية تفرض ضغوطًا نفسية لا تطاق على الناس، ويكون لها حتمًا تأثير غير مباشر على أداء الناس الاقتصادي؛ ذلك أن الخسائر البشرية هي السبب الأساس للتهجير والهروب إلى الخارج، وهي العامل الأساس في النزوح السوري، على نحو يفوق كثيرًا الخسائر في رأس المال المادي. وتثبت عمليات المحاكاة أن عمليات الهجرة كانت أكثر ارتباطًا بمعدلات الخسائر بالأرواح، من أي مؤشر آخر، حيث يقدر التقرير أن أكثر من ثلثي حالات الهجرة خارج البلاد كانت مرتبطة بالخسائر البشرية وحدها؛ إذ إن العوامل المتصلة بالأمن يكون لها الأولوية في تفسير أنماط الهجرة. فإن كانت الهجرة عمومًا تحدث لأسباب اقتصادية، بهدف البحث عن حياة أفضل؛ فإن أول شروط ذلك هو الأمن على الحياة. وينوه التقرير إلى أهمية الآثار المترتبة عن الخسائر البشرية؛ إذ إن أثرها يستمر طويلًا، بالقياس إلى أثر العوامل الأخرى. ويقدر التقرير -عبر سيناريوهات المحاكاة- أن التأثيرات الاقتصادية، بالقياس إلى خسائر الناتج الإجمالي المحلي الناتجة عن الخسائر في الأرواح، ستستمر عشرين عامًا، إذا انتهى الصراع في سنة 2017، حيث إن سدس هذه الخسائر يكون في سنوات الصراع، أما الباقي فتكون بعد توقف الصراع.

آثار التبعثر الاقتصادي

يتوصل التقرير إلى نتيجةٍ مفادها أن تعطل التنظيم الاقتصادي، وتبعثر الاقتصاد، كان القناة الأهم في تأثير الصراع على الاقتصاد السوري. وتبين عمليات المحاكاة أن الخسائر الاقتصادية الناتجة على بعثرة الاقتصاد حتى سنة 2017 تتجاوز تلك المترتبة على الدمار المادي والخسائر في الأرواح مجتمعتين، بعشرين ضعفًا. وهي تشكل ما يعادل 90 بالمئة من الخسائر الكلية. لماذا؟ وهنا أحد أهم النقاط في التقرير. لأن بعثرة الاقتصاد تعني -من ضمن ما تعنيه- انقطاع الاتصال بين البشر، وانخفاض حوافزهم للاستثمار والنشاط الاقتصادي بشكل عام، كما أن ذلك يوقف عمل سلاسل التوريد والتسويق. قد يبدو ذلك مفارقة ظاهريًا، إذ يُخيل للمرء أن الخسائر البشرية وفي البنى التحتية هي الأهم، لأنها خسائر ملموسة، ويمكن رصدها وقياسها بسهولة.

لكن ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أنه –بحسب التقرير- حتى لو عاد رأس المال المفقود إلى الوضع السابق على الصراع؛ فلن يعود الاقتصاد إلى سابق عهده بسرعة. وهذا يعني أيضًا أن عملية إعادة الإعمار ليست عملية هندسية بل هي عملية متكاملة وشاملة لكامل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالتركيز على بناء رأس المال فقط، دون حدوث تعويضات للمتضررين، أو تأسيس نظام جديد يأخذ المحاسبة بعين الاعتبار (وهي من عوامل نشوب الصراع)، لن يحل إلا جزءًا بسيطًا من المشكلة.

ولتقييم بعض مسارات الخروج من المأزق، يستند التقرير إلى مجموعة من السيناريوهات المختلفة لتوقيت إنهاء الصراع: الأول يفترض أن الصراع سينتهي في نهاية 2017 (وهذا ما لم يحدث) وهو ما يسميه التقرير سيناريو خط الأساس. ويفترض السيناريو الثاني أن الصراع سينتهي في سنة 2021، أما الثالث فيفترض استمرار الصراع في المدى المنظور أي ربما يستمر حتى 2031. وفي الحالات الثلاث، يستند التقرير إلى تحليل المحاكاة لتأثيرات الصدمات الناتجة عن تدمير رأس المال، الخسائر البشرية وتبعثر الاقتصاد.

في سيناريو خط الأساس، أي الذي يفترض أن الصراع عمليًا قد توقف في نهاية 2017، فإن البلاد قد تستطيع استرجاع 20 بالمئة من قيمة الناتج الإجمالي المحلي في سنة 2010، وذلك في فترة تمتد لأربع سنوات، بينما سيستمر تدهور الناتج المحلي في حال استمرار الصراع، وهذا ما يحدث حاليًا.

من أهمية السيناريوهات المطروحة أنها تسمح بتقدير حجم الخسائر التراكمية في المستقبل البعيد نسبيًا، بافتراض تواريخ مختلفة لانتهاء الصراع. فمثلًا إن استمر الصراع حتى سنة 2031 (أي إن بلغ سنته العشرين)؛ فهذا سيؤدي إلى حجم خسائر تراكمية تفوق الناتج المحلي لسنة 2010 بأكثر من 13 ضعفًا في سنة 2031. أما إن توقف في سنة 2017 فإن هذه الخسائر التراكمية ستكون في سنة 2031 أقل، ولا تتجاوز 8 أضعاف إجمالي الناتج المحلي لسنة 2010. هذه السيناريوهات تشير إلى أن الخسائر ستستمر حتى بعد انتهاء الصراع؛ بسبب أثر المضاعف الناتج عن تدمير التنظيم الاقتصادي وبعثرة الاقتصاد.

على مستوى الهجرة خارج البلاد، تتوقع السيناريوهات أنها ستتضاعف عن مستواها في 2017، في حال استمر الصراع حتى سنة 2031. وإن كان التقرير يشير إلى أنه “كلما استمر الصراع انخفض معدل التدهور”؛ فإن استمرار الصراع سيجعل معدل التعافي أبطأ، إذ إن استمراره سيجعل الآثار الضارة أكثر استمرارًا، خاصة في ما يتعلق بالخسائر في الأرواح، وفي الهجرة إلى خارج البلاد. فعلى سبيل المثال، إن توقف الصراع في 2017؛ فسيستطيع الاقتصاد خلال أربع سنوات تالية استرداد 40 بالمئة من الفجوة، بين مستواه الفعلي الآن، وما سيكون عليه مستواه في اللحظة نفسها لو لم تحدث الحرب، بينما ستكون نسبة الاسترداد 28 بالمئة فقط، لو استمرت الحرب حتى 2021.

خاتمة:

نحن إذن أمام نتائج كارثية، والتقرير ينوه بشكل حاسم إلى مخاطر استمرار الحرب، وفي الوقت نفسه ينوه إلى ضرورة أن يعقب الحرب قيام نظام يتمتع بمزايا الحكم الرشيد؛ ليتمكن من تجنب الأسباب الجذرية للصراع. يقر التقرير على الرغم من ذلك بأن النتائج لم تأخذ بالحسبان الكثير من العوامل السياسية والمظالم التي تحركها. وفي الواقع إن إضافة هذه العوامل إلى التحليل لن تؤدي إلا إلى تدعيم الخطوط الأساسية فيه: كلما ازداد أمد الصراع؛ زادت المظالم والانقسامات في المجتمع السوري؛ ما سيجعل من هدف إعادة الإعمار وإعادة بناء المؤسسات ذات الكفاءة أكثر صعوبة.

في الختام، لا بد من الإشارة إلى أن التقرير -كونه تقريرًا أوليًا تم إنجازه دون إمكانية الوصول إلى سورية- اضطر إلى تجاهل الكثير من العوامل الأخرى في التحليل، وإن كان قد أشار صراحة إلى أنه تجاهل تأثيرات الاقتصاد السياسي؛ فإنه لم يشر إلى التأثيرات المختلفة لمجريات الصراع على المجموعات الاجتماعية المختلفة، بدءًا بالاختلافات الإثنية والطائفية وصولًا للاختلافات الناتجة عن العمر والجنس. فالعديد من التقارير تشير إلى أن النساء والأطفال -مثلًا- هم من يدفعون وسيدفعون الجزء الأكبر من فاتورة الحرب. إن تحليل آثار الحرب، وفرز نتائج التحليل بحسب المجموعات البشرية المختلفة، وفق الخطوط السالفة الذكر، سيكون له انعكاسات مهمة على أولويات المعالجة، الأمر الذي سيؤدي حتمًا إلى توسيع دائرة مفهوم إعادة الإعمار، من حقلي السياسة والاقتصاد إلى حقول الاجتماع والقانون والثقافة العامة، وما يقتضيه هذا التوسيع من إجراءات لتحقيق العدالة وتعويض المتضررين؛ للوصول إلى مصالحة مستدامة ذات صدقية.

[1]  يمكن تحميل التقرير كاملا باللغة الإنكليزية من هذا الرابط: http://www.worldbank.org/en/country/syria/publication/the-toll-of-war-the-economic-and-social-consequences-of-the-conflict-in-syria

 [2] يمكن الوصول إلى المقالة الأولى على هذا الرابط: https://geroun.net/archives/109160 .

[3]  يمكن الوصول إلى المقالة الثانية على هذا الرابط: https://geroun.net/archives/109857 .


أحمد سعد الدين


المصدر
جيرون