“تنهيدة المغربي” هل هي رواية سلمان رشدي الأخيرة؟



يجري الزمن ما بين المغربي الأول والمغربي الأخير، مترجرجًا بين الأندلس آخر معاقل العرب، وبين البلاد الهندية، بين سلالة فاسكو دوغاما، وأحفاد أبي عبد الله الصغير آخر ملوك بني الأحمر، الذي حمل وزر هزيمة العرب في ماضيهم وحاضرهم، كرمز يتناسخ باستمرار، تتوالى كاميرا سلمان رشدي في روايته (تنهيدة المغربي) الأخيرة (ترجمة عبد الكريم ناصيف، إصدارات دار التكوين لعام 2016) ليعيد صياغة التاريخ والحدث ضمن عالمه الروائي، مندرجة في دوامة سردية ضمن تمازج كبير للأعراق والسلالات المدمجة والهويات الدينية المتشعبة في بقعة من الجغرافيا، تزدحم بأساطيرها وأجناسها وطوائفها، ومميزة بموقعها وتنوعها الثقافي، على لسان الراوي (موريس الزغبي) الحفيد الأخير، في زخم من الشخوص والأحداث، التي تتالت عبر ثلاثة أجيال من الأجداد والأحفاد، مسلطًا الضوء على تاريخ الهند في أتون حمأة الصراع العالمي عليها.

تلك الرائحة؛ رائحة الفلفل؛ كان لها مفعول السحر، لجذب المغامرين من أقاصي الأرض إلى هذه البقعة من العالم المكتظ بأساطيره وخرافاته؛ بأجناسه ودياناته. الفلفل الذي أتى بـ (دي غاما) على متن سفنه، واختلطت السلالات الآتية معه مع سكان المنطقة، ليصبح الحديث عن سلالة صافية محض كلام لا سند واقعيًا له.

تعج الرواية بصراعات متعددة، من صراع الريف والمدينة، إلى الخلاف بين طبائع العائلات القروية، ومسلك أهل الحرف والصناع، مع بروز التيارات السياسية المختلفة، تلك المعارضة للوجود البريطاني في البلاد وسواها، المطالبة بأمة هندوسية وأمة إسلامية، إضافة إلى المطالبين بالاستقلال عن الاحتلال، هذه الاتجاهات برزت حتى ضمن الأسرة الواحدة، فالجد الأكبر للعائلة: فرانسيسكو دي غاما، مغرم بالتيارات اليسارية التي تتبع موسكو، وله فلسفته الخاصة للكون والحياة، فهو يرى الوجود (كل ما حولنا)، عبارة عن شبكات ديناميكية غير مرئية للطاقة الروحية، تشابه الحقول الكهرطيسية، وإن حقول الوجدان ما هي إلا خزانات عملية وأخلاقية، لذاكرة الجنس البشري، والرابطة الأخلاقية هي شبكة الأمان له. تلك الفلسفة التي قوبلت بالتهكم والسخرية من قبل مناوئيه وأعدائه، ومن يختلف معهم من سكان بيته، الخلاف الذي تجسد في منزله الذي انقسم بين موال للبريطانيين ومعاد لهم، وأهمهم زوجته (إبيفانيا) المولعة بالبريطاني المسيطر على القارة الهندية، الذي عمل على أن يجمع حوله العائلات ذات النفوذ والثراء، ليصبح التمسح بالأجنبي وأخلاقياته من سمات الفئات المستفيدة من وجوده، ليورثا هذا الاختلاف لولديهما إيريس وكامونز، الأخير الذي كان متأثرًا بزوجته مرة وبالثورة الروسية مرة أخرى، لينضم إلى حزب المؤتمر في النهاية، بعد فشله بتجسيد شخصية لينين كما تروق للسوفيات، ومن صلبه جاءت (أورورا) المرأة الفنانة المتمردة المتفردة ذات الروح المتوثبة؛ ذات الحضور الأكثر بروزًا في العمل الروائي؛ الروح الجامحة التي أبدعت، وجسدت أفكارها على لوحاتها وجدران بيتها، وهي تدون تاريخًا برسوماتها، حيث كان حشد الصور على جدران غرفتها بمثابة حدادها على الفقد، فقد أمها التي كانت عنوان للسخرية والتمرد على عادات الطبقة البرجوازية وطقوسها، والذي أتى موريس الزغبي الراوي، من زواجها من أبراهام الزغبي، سليل الأندلسي المهزوم والمحظية اليهودية، العاشق المتيم الذي بهره جمالها وعنفوانها الآسر، ليتبوأ تدريجيًا تجارة التوابل، ويتحول إلى أحد أقطاب الاقتصاد المسيطر، كواحد من أغنى المافيات المسيطرة على السلاح والمخدرات.

كثافة الشخصيات التي تدخل الحدث القصي ثم تتوارى لتعود مجددًا بين رئيس وثانوي، تعود لتلقي ظلالًا غير أكيدة على الشخصية، وما تلبث أن تختفي.. فالطبيعة المثلية للعم إيريس التي تجلت في تمظهرات عدة، أعتقد أنه لم يتوغل في العمق النفسي لها، لذا بدت وكأنها استجابة للاستعراض الغربي للحريات الشخصية التي باتت موضة العصر.

مرور الكائن عبر الزمن تبَدى في تداخل عجيب، فهو يعبر عند موريس الابن بدراما ذات فانتازيا غريبة، فهو ينمو بشكل متسارع؛ إذ عاش ببطن أمه نصف المدة الطبيعية للكائن العادي، ويظهر بضعف العمر الحقيقي له، يذكرنا ببطل سليم بركات في (فقهاء الظلام) ذاك الذي ينمو ويعيش حياته كاملة من الطفولة إلى الكهولة، خلال أربع وعشرين ساعة، وبطل فيلم بنجامين الذي ينمو بشكل معاكس من الشيخوخة إلى الطفولة! موريس سليل المنفيين يعاود الرحيل بشكل معاكس إلى بلاد الغال، ليتقصى لوحات أمه بقصدية الإيحاء إلى أن دوامة النفي والاغتراب لا نهاية لها، والمكان زلق ورجراج، لا انتماء ثابت وما من هوية أكيدة.

فاسكو ميراندا الرسام والعاشق الأزلي لـ (أورورا) والطريقة التي يفلسف بها الأمور في حواره مع ابن عشيقته، ليجعله يتجاوز التشوه في يده اليمنى، بأن ضعف الرجل هو قوته والعكس بالعكس..، هل كان آخيل، ليصبح مقاتلًا، فذًا لولا كعبه! حيث دائمًا هناك أمر يؤرقنا يحرك إبداعنا، كلوثة تمسك الروح والوجدان، وتظل تحرقنا وتلسعنا كإبرة واخزة، حتى تصل لأعماق القلب، لنهاياتها ونهايتنا، فالإبرة الواخزة التي ستصل يومًا ما إلى القلب، هي عمرنا القصير والمحدود.

لعل خلطة التوابل والبهارات أدخلت صاحب أطفال منتصف الليل في طقوسها، محاكاة ونكهة، تلك التوليفة الملحمية للتاريخ المحلي، والإغراق في التفاصيل وحشد الشخوص ومتاهة الأحداث، ومراوغة القارئ في مراميه. هذه الخلطة مثل كل النكهات التي قد يستسيغها البعض، وتكون ثقيلة على ذائقة البعض الآخر الذي يتساءل دائمًا عن الجديد في جعبة الكاتب: ما الأمر الذي لم يتطرق له في أعماله السابقة، وما الرسالة التي لم يقلها بعد؟


دعد ديب


المصدر
جيرون