سقوط طائرة إسرائيلية أخيرًا!



لم يحتفظ النظام، هذه المرة، بحق الردّ على الغارة الإسرائيلية القوية والواسعة (يوم 10/2) التي استهدفت مطارين عسكريين، هما المزّة (قرب دمشق) وتي فور (قرب تدمر)، وشملت مواقع عسكرية غاية في الأهمية، في ريفي دمشق وحلب، إذ جاء الرد سريعًا، والأهم أن ذلك نتج عنه إسقاط طائرة حربية إسرائيلية.

ما يهمنا هنا أن هذا الحدث أشعل جدلًا حاميًا، في وسائط التواصل الاجتماعي، باعتباره سابقة فريدة من نوعها؛ إذ اعتاد النظام، طوال العقود السابقة، تكرار اللازمة المملّة والساذجة والمخاتلة التي مفادها أنه “يحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين”، والتي باتت موضع سخرية شديدة ومريرة ومؤسفة، لا سيّما أن هذا الرد لم يأت البتة، رغم تكرار الغارات الإسرائيلية المليئة بروح الاستخفاف والغطرسة. في مقابل ذلك، وكما هو معروف، فإن النظام لم يتسامح قط مع أي تظاهرة أو اعتصام شعبيين وسلميين، كما جرى في ساحتي النواعير في حماه والساعة في حمص (2011)، مثلًا، بل إنه رد على ذلك فورًا بطريقة قاسية ودموية، وهو الأمر الذي بتنا نكابده منذ ذلك الوقت وإلى اليوم، مع الغارات الوحشية التي ظلت تشنّها طائرات النظام، ثم الطائرات الروسية (منذ أيلول 2015)، والتي أمعنت قتلًا وتدميرًا في السوريين في غوطة دمشق وفي مناطق في ريف إدلب، مؤخّرًا.

في نقاش هذه المسألة، ليس مهمًا كثيرًا أن نعرف أكان قرار ضرب الطائرة الإسرائيلية صدر بقرار من النظام أم من غيره؛ لأننا ندرك أن هذا النظام، في حقيقة الأمر، لم يعد يملك من أمره شيئًا، وأنه فقَد السيادة على أراضيه، ولم يعد مالكًا للسيطرة على قراره، ولا حتى على قواته العسكرية، لذا فلن يغير من ذلك واقعة ضرب طائرة إسرائيلية، بعد كل هذا الهوان، وكل هذا الزمن، لا سيّما أن الأمر لا يتعلق بشن غارة على “إسرائيل”، ولا بقصف صاروخي عليها، وإنما بمجرد حالة دفاعية محدودية من كل النواحي؛ هذا أولًا.

ثانيًا، ثمة احتمالان لدافعية هذا الرد: أولهما، وربما هذا الأرجح، أن ذلك جاء في إطار سعي إيران للخبطة المعادلات الحاصلة بخصوص الصراع السوري، بعد أن باتت روسيا تتحكّم بهذا الصراع على حسابها، من المسار التفاوضي في أستانا، وما نجم عنها من اتفاقات المناطق “منخفضة التصعيد”، إلى مؤتمر سوتشي ومخرجاته التي لا تلقى هوًى لدى المعنيين في النظام الإيراني، الذي يرى في كل ما تقدم تحجيمًا لدوره، وتقليمًا لنفوذه، خصوصًا لصدّ الخيار الأميركي الخاص بتحجيم نفوذ إيران في المنطقة، وإغلاق “الكوريدور” بين إيران ولبنان، مرورًا بسورية والعراق، وإعادة البحث في الاتفاق النووي؛ وخصوصًا أن الغارة الإسرائيلية جاءت بُعيد قيام طائرة إيرانية موجهة باقتحام المجال الجوي الإسرائيلي، وتم إسقاطها. طبعًا ثمة احتمال آخر يتعلق بنوع من رد روسي على حادثة قصف مطار حميميم، أو على حادثة إسقاط طائرة سوخوي الروسية، أي طائرة روسية مقابل طائرة أميركية (إسرائيلية)، لكن الاحتمال الأول هو الأكثر ترجيحًا؛ إذ من المستبعد أن تناكف روسيا الولايات المتحدة و”إسرائيل” في آن معًا، وإلى هذه الدرجة.

ثالثًا، لن يغيّر إسقاط الطائرة الإسرائيلية من حقائق الصراع السوري؛ لأن “إسرائيل” وجّهت ضربات موجعة لمواقع النظام ولتمركز القوات الإيرانية والقوى الحليفة لها في سورية، طوال الفترة الماضية، أي أن الاستثناء، المتعلق بإسقاط طائرة، لا يلغي القاعدة، على الرغم من محاولة النظام وحلفائه المبالغة بقصة قصف الطائرة، والاحتفاء بها، لإظهار صدقية كاذبة، أو لإظهار أن تلك الضربة بمثابة صكّ براءة للنظام، أو تأكيدًا لصدقيته المزعومة في المقاومة والممانعة، فما قيمة هذا أو ذاك في نظامٍ شرّد أكثر من نصف شعبه، وأمعن تدميرًا في المدن السورية، ناهيك عن قرابة مليون من الضحايا، إضافة إلى حراسته حدوده، المعروفة بأنها أكثر الحدود التي عرفتها “إسرائيل” هدوءًا في تاريخها.

في الغضون، ثمة مشكلتان في المساجلات المتعلقة بهذه الحادثة: أولاهما أن البعض يظنّ أن “إسرائيل” والنظام لا يمكن أن يكونا في حالة عداء متبادلة، وأن حالة مثل هذه قد تودي، أو تقلّل، من صدقية كلام المعارضين عن أكذوبة المقاومة والممانعة التي يدعيها النظام. وثانيتهما أنه يجب التهليل لضرب “إسرائيل” للنظام، بدعوى أن ذلك يمكن أن يضعفه، أو أن يخفف من قسوته وبطشه بالشعب السوري.

في الواقع، إن هاتين المشكلتين تصدران عن عقلية تبسيطية وثنائية وإرادوية؛ إذ إن المشرق العربي يشهد صراعات بالغة التعقيد، وهذا الوضع يحتمل، أيضًا، مداخلات بالقدر ذاته من التعقيد. مثال ذلك أن الولايات المتحدة سلّمت إيران، المعادية لها، والتي تقول عنها إنها الشيطان الأكبر، العراقَ، بعد إسقاط نظام صدام حسين، بغض النظر عن تفسيرنا لذلك بأنه استخدام أو استثمار لإيران في تخريب البنى الدولتية والمجتمعية في المشرق العربي. ولا ننسى أنه، تبعًا لذلك، تساهلت الولايات المتحدة، و”إسرائيل”، طوال السنوات الماضية، مع تصاعد النفوذ الإيراني في سورية، إلى درجة تركها تهيمن على هذا البلد. ويأتي كمثل على ذلك، أيضًا، التحالف أو التوافق بين روسيا وتركيا وإيران، فمن كان يتوقع ذلك، ولا سيّما مع كل التباينات بين كل واحد منهما والآخر؟ هكذا يمكن أن يكون نظام الأسد في حالة عداء مع “إسرائيل”، والعكس صحيح، وهذا لا ينفي إدراكنا أن “إسرائيل” أسهمت في القرار المتعلق بإطالة عمر نظام الأسد، باعتباره يشكل ضمانة لاستقرارها، وفي المقابل فإن نظام الأسد يتغطى بوجود “إسرائيل”، وبالمقاومة والممانعة، لتعزيز شرعيته، بل لتشريع مصادرته الحريات والموارد، وتحكمه بالدولة والمجتمع السوريين، منذ نصف قرن.

الفكرة الأجدى التي يفترض إدراكها هي أنه يمكن، أو يجدر، التمييز بين العداء لـ “إسرائيل” والعداء للنظام السوري، أي عدم الخلط بينهما، وفق فكرة عدو عدوي صديقي، فهذه الفكرة خاطئة وساذجة؛ لأن الأعداء يمكن أن يتوافقوا على هدف معين، كما يحصل في التوافق على وأد ثورة السوريين أو حرفها عن مقاصدها، أو السيطرة على توجهاتها والتحكم بها. لذا فإن “إسرائيل” تبقى هي ذاتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية مصطنعة، وهي لا يمكن أن تكون مع طلب السوريين على الحرية والعدالة والديمقراطية؛ لأن هذا يتناقض مع طبيعتها، ويضر بها، وفقًا لرؤيتها لذاتها. وبالنسبة إلى النظام السوري، فهو يبقى -سواء أعادى “إسرائيل” أم لم يعادِها- نظامًا استبداديًا، قام على القهر والفساد، وتقويض الدولة والمجتمع السوريين، ومصادرة حقوق مواطنيه.

المعنى أن لا جريمة تغطّي على جريمة أخرى، ولا نظام ظالمًا يغطي على نظام ظالم آخر، أو يبرره. ومثلما أن النظام السوري أجرم بحق شعبه، فإن “إسرائيل” أجرمَت بحق الشعب الفلسطيني، وبحق السوريين باحتلالها جزءًا من أراضيهم، علمًا أن جريمة النظام أقسى وأمر، لأنه مارس ذلك ضد من يفترض أنهم شعبه، في حين أن “إسرائيل” تحترم شعبها، ولكنها تجرم بحق شعب آخر.


ماجد كيالي


المصدر
جيرون