العد العكسي لدور إيران في سورية



برزت أزمة الوجود الإيراني في سورية، منذ ما سُمّي “اتفاق وقف التصعيد في المنطقة الجنوبية”، ومن حينه بدت المحاولات الإيرانية لاستعادة الدور عنوة، أو عبر التقرب أكثر من روسيا ودورها الحاسم، سياسيًا وعسكريًا، في تداعيات الحرب في سورية؛ فكان لها نصيب بترتيبات مؤتمر أستانا وفي سوتشي، بدعم روسي لتعزيز هذا الدور. كما حاولت بقواها الخاصة توسيع دائرة انتشارها في أكثر من منطقة على الأراضي السورية، وكان اعتمادها على ربط ودمج توسعها الإقليمي بين سورية والعراق يصطدم بالأجندة الأميركية، عبر رسائل نارية في أكثر من عملية قصف لميليشياتها، في منطقة الحدود الشرقية بين سورية والعراق. فاضطرت للإذعان مؤقتًا، مكتفية بوجودها القوي في دمشق وحلب وحمص، انتظارًا منها لظرف يساعدها على معاودة الكرة، للفوز بأكبر دور في مداولات “الحل للأزمة السورية”.

على ما يبدو أن القيادة الإيرانية، خاصة بعد المواجهات الداخلية مع الشعب، اعتقدت أن مخرجها من أزمتها الذاتية، يقوم على تسريع خطواتها للفوز بالحصة الأكبر من سورية، عبر التطوير النوعي لترسانتها العسكرية فوق الأراضي السورية، حتى تتمكن من تنفيذ الجزء الأكبر من أجندتها، ولو اضطرها ذلك إلى تجريب المغامرة في اختبار الرد الإسرائيلي على برنامجها التسليحي النوعي، اعتمادًا هذه المرة على تصنيع السلاح المتطور والنوعي في سورية، والعدول عن نقله عبر الحدود العراقية أو بالأسطول الجوي، من طهران إلى مطار دمشق.

إلى ذلك، حرّكت طهران، عبر نفوذ “حزب الله” في السلطة اللبنانية، موضوع الجدار الذي تبنيه “إسرائيل” في حدودها الشمالية مع لبنان، وأصدرت قيادة الجيش اللبناني مواقف فيها تحدٍّ خطابي لـ “إسرائيل”، علمًا أن بناء ذلك الجدار مضى على البدء بتنفيذه وقت طويل. وترافق ذلك مع تصريحات نارية من قادة “حزب الله” ضد “إسرائيل”، ومن كامل جوقة محللي “الممانعة” واستراتيجييها من “جنرالات متقاعدين” وسواهم.

لكن الحدث الدراماتيكي العسكري الأهم جاء من تداعيات الطائرة الموجّهة التي أسقطتها “إسرائيل” في العاشر من شباط/ فبراير الجاري، وأعقبت ذلك بسلسلة من الغارات الجوية على مراكز ومطارات، تشرف عليها طهران داخل سورية، وحسب الإعلام العسكري الإسرائيلي، فقد تمّ تدمير نصف القدرات الصاروخية والرادارية المنتشرة على الأراضي السورية، واتخذ المجلس الوزاري المصغر “الحكومة الأمنية” في “إسرائيل” قرارات بمتابعة ضرب الانتشار الإيراني في سورية، خاصة سلاح الصواريخ ومصانعها المزمعة، ومراكز البحوث العسكرية التي تشرف عليها أجهزة الحرس الثوري الإيراني. واكتفت موسكو، التي تجمعها مع طهران مصالح عملية أعلى من تكتيكية، بمناشدة الأطراف لمنع التصعيد، دون أن توجه نقدًا لـ “إسرائيل”، مكتفية بترداد عبارة “ضرورة احترام السيادة السورية”، وهي عبارة تقرأ على أكثر من وجه.

وللتنصل من مسؤولية التصعيد الخطر مع “إسرائيل”، راحت طهران تنكر وتنفي أن تكون هي من أرسل الطائرة الموجّهة لاختراق المجال الجوي الإسرائيلي، حتى لا تحرج حليفها الروسي، الذي تجمعه مع “إسرائيل” تحالفات، أعمق وأكثر رسوخًا منذ اللحظة الأولى لانخراط القوات الروسية في الحرب على الشعب السوري دفاعًا عن سلطة بشار. فالأمن الإسرائيلي كان الشرط الذي قبلت به موسكو عندما انخرطت بالحرب دفاعًا عن نظام الطاغية، وهو أمن تقرره “إسرائيل” لا أحد سواها، فليس بمقدور بوتين أن يقول لنتنياهو هذا لا يضر أمنكم وهذا يضر. أي أن موسكو ليست بوارد أن تضع حدًا لتطبيقات الأمن الإسرائيلي، عندما ينشأ ما ترى به “إسرائيل” خطرًا على استراتيجيتها ووجودها.

بعد سقوط الطائرة الإسرائيلية (إف-16)، قامت “إسرائيل” بقصف أهداف جديدة دون أن تعترضها الصواريخ الإيرانية في سورية، ولا الصواريخ الروسية المتطورة التي بحوزة قوات الأسد، ناهيك أن روسيا لا يمكن أن تعترض الطائرات الإسرائيلية، خلال عمليات القصف أو الاستطلاع، التزامًا منها بالاتفاقات المعقودة مع “إسرائيل”. وتعرف موسكو أن واشنطن تقف مع “إسرائيل” في أي مواجهة، خاصة عندما تكون طهران هي من يرسمها أو يوجهها أو يدفع إليها، وذلك هو شأن المواجهة الأخيرة التي دمّرت فيها “إسرائيل” أكثر من 12 قاعدة لإيران ولسلطة بشار، وخسرت (إف-16) لا غير، وأكدت حكومة نتنياهو أنها لن تغير قواعد الاشتباك في ترجمتها للدفاع عن أمنها.

ما لم تستوعبه طهران أنها هي الطرف الأخير في ميزان القوى على الساحة السورية، ولن يكون بمستطاعها أن تفرض واقعًا لمصلحتها في سورية بالتضاد مع الأطراف الأخرى: (أميركا، روسيا، إسرائيل، تركيا)، أو على حساب جزء من مصالح هذه الأطراف. كما أنها لم تتفحص جيدًا حدود تحالفها مع موسكو في سورية، وقدرة موسكو على تحمل أعباء مشروع طهران في المنطقة، وما يترتب عليه من صراعات ومواجهات، بدءًا من “إسرائيل” الحليف الأهم لموسكو، وصولًا إلى واشنطن التي تجمعها مع موسكو تفاهمات ضمنية حول معالجة الصراع المحتدم في سورية.

مفاده أن ما سعت له طهران، من تحريك وتسخين للجبهة مع “إسرائيل”، أعطى نتائج عكسية لأهدافها من ورائه، وجلب على قواتها ضربات نوعية، لم تستطع موسكو أن تقنع “إسرائيل” بالإحجام عن القيام بها، حتى بعد إسقاط (إف-16)، رغم أن هناك من قال: إن الصواريخ التي أطلقت على الطائرات الإسرائيلية المغيرة، ونجحت بإسقاط واحدة من تلك الطائرات، هي عمل لا يتم، إذا لم تكن موسكو موافقة عليه، وهو ما التزم الروس الصمت إزاءه. وأكثر من ذلك فإن التحرك الإيراني (الطائرة الموجهة) وتداعياتها نحو حافة حرب شاملة، يجعل موسكو ودورها عرضة لحسابات سياسية جديدة، يأتي في مقدمتها إعادة النظر في علاقتها مع الوجود الإيراني في سورية. ويبدو أن العقل الأرعن لنظام الملالي الظلامي لا يستطيع فهم طريقة إدارة الصراع، وتجنب خلق الأزمات داخل المعسكر الحليف. والغلواء في التصرف المتغطرس لن يؤدي سوى إلى تقهقر أدوات هذه القوى، وصولًا إلى هزيمتها، وروسيا كحليف لطهران تنطلق من رؤيتها لمصالحها، لا من مجاراتها للأجندة الإيرانية. والقادم القريب من تطورات سيكشف أن إيران في سورية ستتقهقر وتنكفئ؛ جراء غلوائها وإدارة ظهرها لحلفائها أو العمل على توريطهم يما يؤذي مصالحهم.


مصطفى الولي


المصدر
جيرون