الصورة والحرب



كيف يمكن أن نتخيّل الحروب وما تمخض عنها من موت ودمار من دون صورة، وهل يمكن أن نعتبر الصورة شاهدًا محايدًا أمينًا في هذه الحروب؟

لم تكن الصورة الفوتوغرافية أو المتحركة شاهدًا وتوثيقًا وحسب، بل كانت شريكًا بتفاصيل يصعب حصرها. فهي جيش موازٍ يقاتل ويشارك ويضلل، ويغير الحقائق ويمارس مهمات فيلقية، لها دورها المقاتل، وهي لاعب أساس في حسم معارك مباشرة وغير مباشرة، يتم استعمالها كما تستعمل الأسلحة الفتاكة، ولها وظائفها المختلفة في كل صنوف الدمار والقتل والتنكيل والانتفاضات والترويج.

حلت الصورة وتبوأت أمكنة مهمة كالصواريخ تمامًا؛ لها إحداثياتها وخبراؤها ومروجوها والمحطات التي تبثها، ولها مراسلوها، وتزييفها والتلاعب بكل ما يجعلها قوة لا يستهان بها.

ولأن الصورة من المستحيل أن تكون خارج تأثيرها؛ فقد حملت معها كل ما تعنيه “البروباغندا”، والانتشار السريع، لتصبح بين الوهم والحقيقة واقعًا مختلطًا ملتبسًا على المتلقي. ولأن الصورة هي المؤثر الأول في إقناع مَن يتفاعل معها، فقد كسبت كثيرًا من المعارك، وكثيرًا من التأثير الحاسم حينًا، وقلب الحقائق أحيانًا كثيرة.

لا يمكن في العصر الحديث أن تكون الحرب بلا صورة، ستكون -حينئذ- حربًا صماء فاشلة، إن لم توازيها حرب مماثلة، أسمها حرب الصورة “الدعاية”.

بعض المعارك حسمتها حرب الصور، قبل حرب الأسلحة والجنود، وتنافست هذه الحرب “الصورة” ضمن ثورة تكنولوجية، في قيادة الرأي العام، وأصبحت هي ومؤثراتها بيد كل طفل في هذا العالم الذي تعمه الفوضى، ثم تفننت وسائل الأعلام الأثيرية، وعبر كل وسائل الاتصال، لتكون موجة (تسونامي) حديثة في أذهان الناس، جعلت الحقائق مختلطة مع الزيف، والضحية مع الجلاد، وعمت فوضى الصورة مع فوضى الإرسال والتلقي، ونشأت بيئة مناسبة جدًا للأكاذيب والتزوير، لكن القتل بقي هو الحقيقة الوحيدة.

لقد استعملت السلطات التي تملك الصورة طرائق مستحدثة لبث الرعب، من خلال جعل الصورة نموذجًا، للترهيب القاتل! فتسريب صور التنكيل بالمعارضين عبر الصور، جعل المتلقي يظن أن صور الأجساد، وهي معلقة مدماة، ما هي إلا حقيقة مسربة! ويقوم المعارض بنشر هذه الصور على الملأ اعتقادًا منه، أنه يفضح الممارسات اللاإنسانية، لكن اللعبة تكمن هنا! عندما تجعل المستهدفَ يقوم بنشرها وانتشارها كي تحقق الصورة وظيفتها -بما تحمله من بؤس وجريمة- في بعث رسائل للعدو، تقول: إن هذا مصير كل مَن يقف في وجه السلطة.

لا شيء عفويًا في الصورة، ولا يمكن أن تكون زلة أو خطأً ارتكبه أحد ما، بقدر ما هي جزء لا يتجزأ من طاحونة الحرب وصورها المرعبة. ففي كل حلبات الصراع كانت الصورة جسر عبور نحو وجدان الآخر، يهدف إلى تشكيل رأي آخر.

كثيرًا ما كنا نرى وجود (داعش)، على سبيل المثال، حقيقة، فقط من خلال الصورة، لكنها على أرض الوقع ما هي إلا صورة أشباح… هنا يصبح الواقع شبحًا وخيالًا، والخيال والصورة واقعًا، لكن المتلقي يرتبط بالصورة (الشبح)، أكثر من ارتباطه بالواقع.

تكثفت الأخبار والإعلام برمته، بمتلازمات: الموت/ الصورة، الحرب/ الصورة، القمع/ الصورة، النصر/ الصورة، الهزيمة/ الصورة، وهكذا… فكما تنتصر الخرافات بالرواية، تنتصر الحروب بالصورة.

لم ينتبه المثقف والثوري لهذه الحيلة، التي جعلت أنظمة استبدادية تدوم عقودًا، وجعلت جيوشًا مهلهلة تحرز البقاء والنصر، عبر هذا السحر الذي يسمى صورة! مع أنها لم تكن جديدة على تاريخ البشرية، فهي كانت الأبجدية الأولى للغة والتواصل، من الرسومات على جدران الكهوف والصخور، وما آلت إليه اليوم، حيث بقيت وما زالت المؤثر الأكثر إقناعًا وتأثيرًا.

أخذت الصورة من بعدها المسطح تنائيه الأبعد، لتصبح مجسمة/ ثلاثية ورباعية الأبعاد، فاقتربت من تجسيد الواقع وكتلته الثقيلة، لها شكل وصوت ورائحة وألوان وحركة ومؤثرات، تفوق الواقع واقعية أحيانًا، وتستجلب المشاعر، وكأنها تحدث الآن، حتى لو كانت من ماضٍ بعيد.

أخطر ما جرى على الصورة ومحتواياتها إمكانية تخزينها وحفظها رقميًا، واسترجاعها متى شاء مَن يريد توظيفها.. والأخطر، سهولة الحصول عليها وتزويرها والتلاعب فيها، وسهولة بثها من قبل أي شخص، ودون احتراف أو تعقيد.

إنها وحش الكون الجديد، كالديناميت تمامًا، إن تم إخراجها من قيمتها الجمالية.


فيصل الزعبي


المصدر
جيرون