الأوسكار وآخرُ الرجال في حلب
16 شباط (فبراير - فيفري)، 2018
[ad_1]
يُنجز فيلم (آخر الرجال في حلب) وثيقةً بصرية متقنةَ الصنع عن أحياءِ حلب الشرقية، والموتُ يقرص أنفاس قاطنيها وهم تحت رداء الردم، والقذائف تلوث جدران مبانيها بالصداع وبصور الغياب، وكأن الفيلم وصانعه فراس فياض يستنطقان مجددًا مساحة الألم والعزلة التي رافقت الجزء الشرقي من المدينة، خلال سنوات الحصار والقصف. قبل أن يصل إلى القائمة القصيرة للأفلام الوثائقية المرشحة لجائزة الأوسكار، إلى جانب خمسة عشر فيلمًا وثائقيا آخر، من بينها (جين) و(لوس أنجلوس 92)، و(رحلة طويلة غريبة)، و(إيكاروس).
خلال عامي 2015 و2016، عايش فريق التصوير والإعداد كدمات الواقع، كما عايشها أبطال الفيلم الحقيقيون، وهم رجال الدفاع المدني السوري، ولم تُغْرِ منحة الإنتاج الدانماركية في خروج الفيلم سريعًا إلى الضوء، بقي متريثًا يراقب نكبة المدينة التي لا تُحتمل، ويلتقط تفاصيل الحياة والموت ما أمكن، مكتشفًا التضاد بين ملمس بشرة الأطفال تحت ركام الأبنية، وملمس سمكات الزينة في حوض خالد. بين انتحاب الأهالي على هلاك ذويهم، وضحكات أطفالٍ تَثِبُ داخل سياج حديقة ألعابٍ صغيرة. بين قِفَارِ الموت والتهجير، وعرسٍ سريع يُلطخ الوجوه ببعض البهجة. ظل الفيلم وفيًا لثنائية الوجود هذه، طوال ساعةٍ ونصف تقريبًا؛ إذ يبدأ بمراقبة خالد المتطوع في الدفاع المدني لتحليق طائرةٍ حربية، ثم يهرع مع رفاقه إلى سيارة الدفاع المدني. الكاميرا لا تنجرفُ هنا وراء كوادرٍ واسعة، بل تلتقط وجه خالد، وكأنها تلاحقهُ في لقطاتٍ ضيقة ومتوسطة، ثم ترافقهُ في السيارة، فتصير عينًا تنفتح على أحشاء الدمار في الخارج، حيث تظهر أحياء حلب الشرقية منهكة، وقد تداعت أبنيتها، والتصق البؤس ببقايا شوارعها. في وقتٍ تنساب فيه الموسيقا التصويرية كما لو أنها تأكيدٌ إضافي على أبعاد الفناء التي تتشبث بالأفق، يزيد فيها حضور آلة الكمان والتشيلو عمق اللحظة، يجسمان الدمار أكثر وكأنه مخطوطة توجع البصر حين قراءتها. بعدها تتخلص الكاميرا من ملازمة السيارة، تصور في لقطةٍ ثابتة سوقًا تجاريًا، وهي بذلك تدلل على وجود الحياة وانبعاثها في ذاك الركن المعطوب من المدينة، ثم يظهر خالد في مشهدٍ مع عائلته: ابنتيه اللتين تفخران بأبيهما، وهما تشاهدان مقطعَ فيديو على شاشة هاتف محمولٍ (لقطة داخل لقطة) يظهر فيه الأب، وهو ينقذ سيدة مع طفلها الصغير من تحت بناءٍ، قصفه الطيران الروسي أو السوري.
وعلى صوت طائرةٍ حربية يجري قطع المشهد، والانتقال إلى آخرٍ خارجي، يظهر فيه خالد وابنته، وهما يقصدان صيدليةً قريبة، ينظران إلى الأعلى حيث صوت الطائرة لا يزال رابضًا فوقهما، يسأل الأب عن المشكلة في أصابع ابنته، يتحدث مع الصيدلاني عن الحصار وشح الأدوية والفيتامينات، لتعود الكاميرا إلى سيارة الدفاع المدني، حيث نتعرف على سائقها محمود، وتتعاقب مشاهد إنقاذ المدنيين في لقطاتٍ قريبة لكاميرا ثابتة، وأخرى متحركة تقلد العين البشرية حين تبصر أثناء المشي أو الحركة، وهذا مكن الجانب التوثيقي في تثبيت خصائص اللحظة المنتقاة. لاحقًا تعود الموسيقى التصويرية على لقطةٍ قريبة لوجهِ محمود المتعب من عمليات الإنقاذ، ثم يظهر في لقطةٍ متوسطة ثابتة مع رفاقه المتطوعين، قبل القطع على مشهدٍ لطفل تم انتشاله حيًا من تحت الأنقاض.
خالد يراقب حركة الطائرات الحربية التي تلعب في السماء، يحدد مع رفاقه مكان سقوط قذيفةٍ أو برميلٍ متفجر، ويهرعون لإنقاذ الضحايا. ويوميات خالد ومحمود هي يوميات الشطر المنكوب من حلب، حيث يزور محمود أسرًا تحتاج إلى الرعاية، يمسد على رؤوس أطفالٍ لامسها الموت بأطراف أصابعه ونجت، ويلعب خالد الكرة في بهو بناء الدفاع المدني، ثم يظهر محمود وهو يطهو على ضوء مصباح جيب، ورفيقه يطالع الأخبار على شاشة هاتفه المحمول، وهنا تقدم اللقطة القريبة وزوايا التصوير المختلفة وظيفةً سيميائية عميقةَ الدلالة في الأفلام الوثائقية، وفي مشاهد إنقاذ المدنيين تُراعي لقطات الكاميرا المحمولة الهاجس التوثيقي لبنية الواقع المرصود بكثافته اليقينية.
يتجول خالد ومحمود داخل الأبنية التي قضمتها أسنان القصف، يبحثون عن أصوات ناجين، أو محتاجين إلى المساعدة، واللقطاتُ الثابتة المتوسطة والواسعة للمشاهد الخارجية، تُظهر مأسوية الخراب ومدى اتساعه، وكأنها تُزيل بمنديل رطب كثافةَ الضباب عن تمائمِ الموت والدمار التي تلقيها آلة الحرب فوق المكان بلا شفقة، ثم يقول خالد بلهجته الحلبية: “هذا دمار كبير، دمار مرعب”. لكن الفيلم يدون –أيضًا- الحياة اليومية للأشخاص الذين يظهرون فيه. تصويرهُ مرتبطٌ بوشائج حقيقية مع الواقع، وبعض اللقطات يصعب إعادة تصويرها، ففي الدقيقة 39 من الفيلم يتوجه محمود وأحمد بسيارة الدفاع المدني إلى طريقٍ خارج المدينة لمعاينة سيارةٍ تعرضت للقصف، وهناك يحدث إطلاقُ نارٍ عليهم، فتواصل الكاميرا سردَ اللحظة الواقعية، وهم يندفعون راكضين داخل أرضٍ زراعيةٍ فسيحة. بالإضافة إلى تكريس اللقطات الثابتة القريبة لتصوير الوجوه وهي تتحدث، يتأطرُ وجه المتحدث ضمن كادرٍ قريب جدًا، وكأنه صورة فوتوغرافية تنطق.
في الهدنة، لا صواريخَ تلطمُ وجه الأرض، حينها فقط يجد خالد ورفاقه متسعًا من الوقت لاصطحاب الأطفال بسيارة الدفاع المدني، وتلك جولةٌ ترفيهية متواضعة الوجهة داخل أشلاء الأحياء النازفة تحت الشمس، وأرشيفُ المدينة الهاربة من عبث الموت تلتقطه عدسة الكاميرا مجددًا. يصلون إلى حديقة ألعابٍ صغيرة، هناك يستطيعون أن ينشروا ضحكاتهم تحت وهج الضوء. يتنفسون بِملء رئاتهم قبل أن يعود القصف، وتشبع المدينةُ منه، فيهرعُ فريق الدفاع المدني إلى انتشال الجثث من تحت الردم، وتعودُ اللقطات الثابتة المتوسطة والقريبة لتكشفَ جسد المكان المتصدع.
الخوفُ أحد هواجس الفيلم البصرية، يخافُ خالد من أن تمتد يدُ الموت لتقطف ابنتيه، وهذا يجعله يعرضُ قلقه أمام صديقه، وهما في سيارة الدفاع المدني. “لا مكان أرسلهم إليه” يقول خالد، ثم يضيف: “الأفضل أن تبقيا أمام عيني”، وسرعان ما يظهر خالد في تظاهرةٍ تدعو إلى الحرية وإسقاط النظام، نراهُ في لقطاتٍ قريبة يرفعُ علم الثورة، ويغني. ثم نراهُ نائمًا في الدقيقة 69 من الفيلم، ليبدأ واحدٌ من أجمل المشاهد، وأكثرها حرفية. حيث تعود الموسيقا التصويرية مع لقطةٍ قريبة يظهر في كادرها حوضُ سمك الزينة الذي سبق أن رآهُ خالد في المتجر، ثم تبتعد الكاميرا (زووم أوت) فيظهرُ ثقبٌ واسعٌ في الجدار، وأثارُ الدمار تلفُ المكان بقسوة، ثم يظهر مجددًا في حركةٍ صاعدة للكاميرا، وتتوالى مشاهد الدمار الموثقة من زوايا مختلفة، كما يظهر محمود نائمًا، وكأن تلك المشاهد أحلامٌ لا تفارق نومهم.
يسهرون ليلًا، يسرقون فرحًا من حدائق الموت، ويغنون بعض القدود الحلبية، أو يؤلفون أخرى بسخريةٍ محببة، ثم يهرولون إلى حيث رمى صاروخٌ فراغي حمولتهُ من الفناء والعدم. يتحدث خالد مع ابنته بتول، شاشةُ هاتفهِ تُضيء وجهه ليلًا، ويضحك على كلماتها، وفي الصباح يخطفهُ الموت، تاركًا وراءه فراغًا بحجم مدينة، مدينةُ حلب التي تشبههُ، ويشبهها. نرى رفاقه يغسلون جسده على طاولةٍ داخل مبنى الدفاع المدني السوري، ثم يشيعونه بهدوءٍ، ويدفنوه. قبل أن يسدلوا جميعهم الستارة على مأساة الحصار والموت تلك، ويخرجون بموجبِ اتفاقٍ أممي من المدينة، ورائحةُ الموت لا تفارق أرواحهم.
(آخر الرجال في حلب) وثائقي طويل، فيه مخزونٌ من العاطفة والكبرياء لا ينضبان، وهو الفيلم الوثائقي العربي الوحيد المرشح لجائزة لأوسكار هذا العام، وسبق أن نال اثنتا عشرة جائزةً دولية، أهمها جائزة لجنة التحكيم الكبرى في قسم السينما العالمية بمهرجان (سندانس) السينمائي عام 2017.
أيمن الشوفي
[ad_1]
[ad_2]
[sociallocker]
جيرون