“أولاد الغيتو” والتحرر من الرواية الكاذبة



بدأ الكاتب والروائي إلياس خوري روايته (أولاد الغيتو- اسمي آدم) بشهادة، قال فيها “أنا ككل الفلسطينيين الذين فقدوا كل شيء، حيث فقدوا وطنهم، أنا لا أكتب كي يقرأ… أو كي يعترفَ بي وبحكايتي، المؤرخون العرب والإسرائيليون، فمأساتي لا تحتاج إلى اعترافهم، وسواء أقرّ بها أم لم يقرّ، فإنها محفورة على الأرواح والأمكنة، ينطق بها الحجر والشجر والطيور والأنهار والبحار، وطز على علم العلماء”.

لم يبقَ الأديب الكبير أسير حكاية كاذبة، ولم يستند إلى وثائق ناقصة، قرأ ودرس وحفر كل تاريخ نكبة 1948، وما كتب حولها أدبًا وشعرًا وتأريخًا.

عرّف إلياس خوري بمنهجه في الكتابة “أنا لا أتكلم بحثًا عن شيء، ولا أغمض عيني كي أغوص في ذاتي. عيناي مفتوحتان إلى أقصى حد، كي أرى العالم بأسره في مرايا الكلمات. كلماتي التي أكتبها صارت مراياي، أنظر فيها من أجل اكتشاف العالم وتأليفه من جديد”.

هنا تقع أهمية الأدب، فالأدب هو تظليل عالم بلا ظلال، من أجل اكتشاف خفاياه. الحنين هو الحنين، يعني دفء الذاكرة “ولما تشعر روحك بردانة إيش بنعمل؟ ما فيش دفاية للروح إلا الحنين… وبتدفّى بذاكرتك وبتحتمي فيها”.

لم يقل خوري أن الذي يريد أن يحتمي به هو سبب قهره، وأن عليه أن يتخلص من دفء الذاكرة، فهذا الدفء “يجعلني أسفر بأن جلدي يحكني، وأنني أريد أن أمزق ذاكرتي، كي أخرج من شرنقة الحنين وأنظر إلى المستقبل”.

عندما كتب الخوري عمّا جرى في مدن فلسطين أيام النكبة، مرّ أمام عينيّ شريط ما جري في مدن (الربيع العربي). سأل: “هل رأى أحدٌ في العالم جثة مدينة؟ والله موت الناس لا شيء، الجثث المتحللة لا تقارن بتحلل جثث البيوت، وتفتت الشوارع والأرصفة”، حين يروي أهل اللدّ (الغيتو) ذاكرة تلك الأيام، أتذكر كقارئ لهذه الرواية ما حصل في الربيع العربي، فقد ماتت الشرعية الدولية والجامعة العربية، وصلب الضمير العالمي على أبواب عواصم تلك الدول. أنا أدين لهذا المفكر من خلال قراءتي لأولاد (الغيتو)، وقبلها (باب الشمس) بقراءة ما عانيت شخصيًا في (الربيع العربي).

في (الغيتو) هربت النجوم من سماء المدينة، لأنها “لم تحتمل مشهد الموت الذي صار أكفانًا، يحملها شبان اللدّ إلى المقابر الجماعية”. حين تختفي النجوم تختفي السماء، هل تستطيع أن تعيش في أرض بلا سماء؟، ويستشهد الروائي بقول سيده ساكن الضريح: “النجوم عيون السماء، وصارت السماء عمياء. الشاب مفيد ميت مرمي على الأرض، ولا شيء يغطيه إلا العتمة”، وعندما حاولوا دفنه في مقبرة المسلمين، رفض الضابط الإسرائيلي السماح بالخروج من غيتو… تحدث الضابط: “أنتم لم تتنازلوا عن شيء، نحن أخذنا كل شيء بقوة ذراعنا”.

كتب الروائي الإسرائيلي “يزهار ما رآه ببلاغة شاهد عيان وشارك في الجريمة، وخرج باستنتاج مذهل هو أن الفلسطينيين صاروا يهود اليهود”، ثم أعلن الضابط الإسرائيلي والروائي يزهار: “على الشعب اليهودي أن يصنع يهوده الذين يشبهون صورته التي قرر التخلص منها، كي يدخل في دائرة الشعوب المتحضرة”، هذه هي عبقرية يزهار، وكان “لا بدّ من هذا المشهد التوراتي الذي يتلاشى من ضباب التاريخ؛ كي يبدأ الزمن الإسرائيلي الجديد”.

لم يتحدث الأديب خوري بلسان بطل الرواية عن يتمه الشخصي بسبب مقتل والده، بل تحدث عن شعب (الغيتو) بشيبه وشبابه، الذي صار لا يشبه سوى الأطفال اليتامى.

لم ينهزم الفلسطينيون كمقاتلين أمام اليهود في اللدّ والمدن الأخرى، “انهزم ثلاثمئة مقاتل فلسطيني أمام أكثر من ألفين وخمسمئة يهودي، وساهم تواطؤ الجنرال ستوكويل قائد الحامية البريطانية في حيفا في انتصارهم بشكل واضح”. كان اليهود يقاتلون كجيش نظامي مسلح بأسلحة ثقيلة، بينما عرب فلسطين حاربوا أفرادًا وجماعات تم جمعها على عجل. “لن أغفر لآبائي هؤلاء، لكني لا أستطيع سوى الشعور بالتعاطف معهم، المشترك الذي يجمعهم أنهم كانوا ضحايا، وماتوا واختفوا كالضحايا”.

نحن -الفلسطينيين- ضحية الضحية، نحن وفقراء اليهود في فلسطين ضحايا هؤلاء القتلة، الذين جلبوا من معسكرات الاعتقال النازية إلى حلبة المعركة، الذين خانوا لغة الضحية اليهودية، حين سحقوا الفلسطينيين بلا رحمة. “القتل موجّه نحو الآخر، تقتل الآخر، كي لا تموت، أما العملية الانتحارية فموت مزدوج. هذه الرغبة في القتل ليست ابنة ذاكرة النكبة… فـ “إسرائيل” حولت حيوات ثلاثة أجيال من الفلسطينيين لحكايات نكبتهم… فالجيل الذي كان من المفترض أن ينسى حكايات آبائه وأجداده عن نكبتهم، يعيش اليوم نكبته ونكبتهم بعينه”.

عندما خرج الناس متدافعين إلى حيث أمِروا بالتجمع “فقد تعلم من بقي من سكان اللدّ الدرس جيدًا، فهؤلاء الجنود لا يمزحون، وهم قادرون بل راغبون في القتل، فرائحة الدم فتحت شهيتهم إلى مزيد من الدم”. توافد الناس من مخابئهم في الكنيسة والجامع والمستشفى، يتلفتون، تلتقي العيون بالعيون، فهل النكبة أبقت كنائس وجوامع ومشافي؟

أما صبرا وشاتيلا تلك المذبحة، فهي شهادة ليس فقط على وحشية القتلة “وحشية الجيش الإسرائيلي، الذي سمح بارتكاب مذابحهم، وكان شريكهم فيها، وأشعل لهم ليل المخيم بقنابله المضيئة، بل -أيضًا- على قدرة الإنسان على أن يفقد روحه وينتشي بالدم”.

ما علاقة رقصة الحب برقصة الموت؟ “الرقص هو التعبير الأقصى، حين تعجز كل الأدوات عن التعبير”، ويصرح الأديب قائلًا للأجداد “أن يحلوا عنا، كي نستطيع أن نعيش، ونصنع ما تركته لنا الدنيا من بقايا حياة”.

قالت أمي منال: إن اللدّ فقدت رائحتها “حين جمعونا في ساحة الجامع داخل سياج الأسلاك الشائكة، ماتت رائحة المدينة، اختفى عطر زهر الليمون، لتحتلنا رائحة الموت التي هبت من الجهات الأربع”. فهل اختفت رائحة مدن الربيع العربي؟

خاطب رجل الرواية/ الملحمة (دالية): “إن مشكلتنا الكبرى هي خوفنا من نقد الماضي، لأننا إذا خسرنا وهم الانتماء، فقدنا كل شيء”. سرّ أمي ما بعد البكاء “عندما شاهدتُ على التلفزيون صور الجثث التي تكدست في مذبحة شاتيلا وصبرا، فهمت ماذا يعني ما بعد البكاء… أعترف أنني يومها شعرت بالعجز عن البكاء. تحجر الدمع في عينيّ، واجتاحني فاشتعلت في حنجرتي”. هذا هو ما بعد البكاء، لقد حولت “الصهيونية طرد شعب كامل إلى وصمة عار في تاريخ المطرودين، وأعفت المجرم من أي مسؤولية أخلاقية”.

رافق الرواية، منذ صفحتها الأولى، الحديث عن الشاعر (وضاح اليمن)، فلعب الروائي مع الشاعر لعبة الموت، رأى صمته وصندوقه ينزل في قبره، وهو حي، فيه استعارة للضحية التي كبلها الحب، وسكوت الملكة زوجة الخليفة الأموي، عندما طلب منها الخليفة أن تعطيه صندوق عشيقها، قدمته له خشية فضيحتها وحبًا بالحياة، فصمتت كما صمت وضاح، وانتصر الخليفة…

تساءل خوري بلسان بطل الرواية: “هل كانت مذبحة جامع دهمش خطأ؟”

ماذا يعني الاحتماء بفكرة الخطأ كما حصل في الربيع العربي؟ “حين يكون عدد الضحايا أكثر من مئة وخمسة وعشرين شخصًا من الناس من مختلف الأعمار. هل يحمي الخطأ مرتكبيه من المسؤولية؟”.

قدم الروائي أفكارًا تدين اليهود وقادة (إسرائيل): “أعرف أن كلمة مذبحة ثقيلة على الآذان في عالم اليوم الذي ينظر إلى (إسرائيل) بصفتها ابنة الهولوكوست، ووريثة الألم اليهودي الذي صنعه الاضطهاد الوحشي والإبادة الجماعية، ومع ذلك لا أستطيع أن أستخدم كلمة أخرى، فهذه الكلمة لا تلائم ما حصل في فلسطين عام 1948 فقط، بل تمتد مع هذا النكبة المستمرة من أكثر من خمسين عامًا، مذبحة متواصلة لم تتوقف حتى الآن”.

أعترف الآن، وأنا ابن المدينة الذبيح، أنني لم أكتشف حقيقة هذه النكبة إلا عندما صار في إمكاني أن أحكي. ليست مذبحة جامع دهمش هي المسألة، فحين تصير شوارع المدينة كلها مصيدة للموت، يتحجر الكلام… (الغيتو) هو اسم أحياء اليهود في أوروبا، فهؤلاء لا يعرفون أنه لا توجد في بلادنا غيتوات، وأننا نطلق على أحياء اليهود اسم (حارة اليهود) كغيرها من حارات المدن.

“هل يعني إحنا صرنا يهود؟ أعوذ بالله إحنا مسلمين ومسيحيين، هذول مفكرين حالهم بأوروبا وجايين وجايبين معهم الغيتو حتى يحطونا فيه. الغيتو يعني حي العرب…”.

“هل يتمسك الناس بحبال الله، إذا انقطعت كل الحبال الأخرى بهم؟ لكن الناس لم يصلوا في ذلك اليوم، فالصلاة تحتاج إلى أمل، سكان اللدّ فقدوا كل أمل”.

قالت أمي منال، حين روت حكاية العطش: “إن الدموع لا تروي، بس لو كانت الدموع تروي العطشان”.

جاءت عبارات همس الصمت، أنين الرضع خافت، أنا أنسج ذاكرة الصمت من كلام أمي: “إن الأطفال أصيبوا بالخرس، وأجبروا عل العيش والموت بصمت”، وصار بكاء الأطفال بلا دموع، (الغيتو) نشّف دموع العيون وحليب الأثداء، كتب الأديب خوري حكايته روايةً، وكل الذكريات التي استعادها هي مرايا، وختم حديث المرايا “المرايا والويل لي، لأن مراياي تبدأ بالموت وتنتهي به”.

جريمة فرض الصمت على شعب كامل هي الجريمة الأكبر. “الصمت الذي فرضه المنتصر على المهزوم بقوة الضحية اليهودية التي سادت في العالم أي في الغرب، بعد جرائم الحرب العالمية الثانية ووحشة المحرقة النازية، لم يسمع أحدٌ أنين الفلسطينيين الذين كانوا يموتون ويشردون بصمت… جاء الأدب… يأخذنا مع محمود درويش إلى جهة الريح”. منع شعب فلسطين من البكاء، جيش الاحتلال منع ضحاياه من البكاء، ولم ينتبه أحدٌ “أننا قمنا بدفن طفلة مسيحية على الطريقة الإسلامية، حتى نبيل الذي قال إنها أخته، لم يعلق على الموضوع، ومدّ يده وهو يقرأ الفاتحة”.

فصار الفلسطيني الناهب والمنهوب، الحرامي والضحية “تفو علينا كيف صرنا، وكانت الشاحنات الإسرائيلية تمضي بكل شيء”.

هذه هي حكاية أولاد الغيتو، جاءت في رواية (أولاد الغيتو) “أنا لا أريد أن أقارن بين الهولوكوست والنكبة… الذي يقتل إنسانًا بريئًا كمن قتل كل الناس… يشير إلى المآل الذي انتهت إليه القضية اليهودية على أيدي الحركة الصهيونية، التي حولت اليهود من ضحايا إلى جلادين، وحطمت فلسفة المنفى الوجودي اليهودي، بل جعلت من هذا المنفى ملكًا لضحاياها الفلسطينيين”.

* * *

اسم الكتاب: (أولاد الغيتو – اسمي آدم)

المؤلف: إلياس خوري

الناشر: دار الآداب للنشر والتوزيع في بيروت

تاريخ الإصدار: 2016

(أولاد الغيتو – اسمي آدم) رواية للروائي الفلسطيني إلياس خوري. صدرت لأوّل مرة عام 2016، ودخلت في القائمة النهائية “القصيرة” للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2017، وهي النسخة العربية لجائزة (بوكر) العالمية للرواية.


عبد الحفيظ الحافظ


المصدر
جيرون