الطبقة الوسطى السورية إلى أين؟



معروف عن الطبقة الوسطى، بحكم وقوعها في وسط التراتب الطبقي للمجتمعات البشرية، قدرتها على حفظ التوازن السياسي لأي مجتمع، ويقال عنها إنها تلعب دور صمام الأمان في حفظ التوازنات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. في هذا المقال سنتناول الطبقة الوسطى العربية عمومًا والسورية خصوصًا، لا سيما بعد انطلاق الربيع العربي.

تعاني أغلبية البلدان العربية من الأزمة والتدهور والفشل في برامج ومشاريع التنمية البشرية، كما أنها تعاني أزمات وإخفاقات مزمنة في القطاعات الاقتصادية، وتعتمد جميع الدول العربية على ديمقراطية مشوهة مراوغة ومنقوصة، لا علاقة لها بالحرية الحقيقية المطلوبة لهذه الدول، كما أن هناك حدودًا لا بل مسافات طبقية واسعة وهُوًى بين الأغنياء والفقراء، وفي صميم هذا المشهد، توجد الطبقة الوسطى العربية الحديثة، تتحالف بعض شرائحها مع الأنظمة الحاكمة للانتفاع، وتعاني الشرائح الباقية التآكل والحرمان. (1)

كما أن هذه الطبقة تطرح “مشكلة كبرى في الاجتماع السياسي العربي المعاصر، فعلى الرغم من عدم تجانس مكوناتها، وتباين اختياراتها الفكرية والسياسية (ليبرالية، علمانية، يسارية، إسلامية، معتدلة، متشددة)، وهو ما قد يبدو في صالح السلطوية العربية، فإنها تمثل مأزقًا بنيويًا لهذه السلطوية، فلا هذه الأخيرة قادرة على الإجهاز عليها، بسبب حاجتها إلى دعمها السياسي والاجتماعي، ومخاوفها من انجرارها إلى خيارات راديكالية، تفضي بها في النهاية إلى التحالف مع الفئات الفقيرة والهشة، ولا هي في الوقت نفسه، قادرة على الاستجابة لطموحاتها السياسية المتزايدة التي قد تؤدي، مع الوقت، إلى المطالبة، من موقع قوة، بإعادة صياغة المشهد السياسي، وفرض ميزان قوى جديد”. (2)

الطبقة الوسطى السورية:

“نشأت في سورية، خلال السنوات الخمسين الأخيرة، طبقة وسطى عريضة، في المدن الكبيرة والبلدات المحيطة بها التي تحولت إلى مدن صغيرة، كان ازدهارها النسبي من صناعتها الذاتية. فقد اعتمدت على جهدها، في تحصيل المال من الخليج، أو من الاتجار بالأرض التي تمتلكها، ولم تكن هذه الطبقة الميسورة الحال نسبيًا والنشيطة جدًا في العمل والتجارة والبناء العقاري، بأحسن حالًا من النظام، على مستوى الفكر والثقافة. غياب الثقافة حرمها من القيم الفكرية والسياسية التي تنطوي عليها الطبقة الوسطى الأوروبية، في الإيمان العميق بديمقراطية الدولة والمجتمع، والاستعداد للموت في الدفاع عن الحرية السياسية والاجتماعية، كما فعلت وضحّت بعشرات الملايين في الحرب العالمية الثانية، لإسقاط الفاشية العنصرية”. (3)

الطبقة الوسطى في سورية، مثلها مثل الدول العربية الأخرى، لا تشكل كتلة متجانسة، من حيث التكوين الاجتماعي الاقتصادي، إذ يندرج ضمنها كتلة خليطة من الأطباء والمهندسين والموظفين والمثقفين والمعلمين والحرفيين، ما يميزهم هو مجموعة من الصفات المشتركة مثل القدرة على تحصيل دخلٍ يمكنهم من العيش في شكل مكتف، وتغطية الكلف الاستهلاكية الأساسية، وهذه الفئات هي الأكثر قدرة وتقبلًا على التغيير والتجديد والانفتاح الاجتماعي والثقافي، والأكثر استعدادًا للمشاركة في الشأن العام، وهي الأقل تمسكًا بالعادات والتقاليد. (4)

عقد النظام اتفاقًا شفهيًا مع المؤسسة الدينية التقليدية، ووَفَّرَ نوعًا من الحرية الدينية. ولاقى ذلك ترحيبًا لدى الطبقة الوسطى السنية في المدينة الكبيرة، وليس في الريف المتذمر الذي لاقى لا مبالاة النظام في الاهتمام بالخدمات، لا سيما في تخطيط وخدمة المدن الصغيرة، فكان البناء العشوائي سمة التشويه الغالبة على التوسع العمراني. (5)

في عام 2014، استنتج تقرير بعنوان (الطبقة الوسطى في البلدان العربية، قياسها ودورها في التغيير)، وضعته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية الاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا)، أن نموذج التنمية العربي أنتج طبقة وسطى أكثر تعليمًا وصحة، لكنها ضعيفة اقتصاديًا، ومقهورة سياسيًا، تقلّص تعدادها من نصف سكان العالم العربي إلى حوالي 33 في المئة عام 2011، وازداد معها حجم الشرائح الفقيرة والمعرّضة للفقر إلى نحو 43 في المئة. (6)

يشير الكاتب أكرم البني إلى أن من الممكن أن تغير شرائح الطبقة الوسطى مواقعها واصطفافاتها، في كثير من الحالات، كما أنها من الممكن أن تغير مواقعها بسرعة إلى مواقع أخرى مغايرة لتوجهاتها السياسية والأيديولوجية، تبعًا لتغير الواقع ودرجة التغيرات والتقلبات المجتمعية، سواء أكانت سياسية أم اقتصادية، وهذا ما يفسر في سورية –كما ذهب إلى ذلك أكرم البني– حالة التشظي السياسي والفكري التي ظهرت في صفوفها وصفوف ممثليها، وهي مستمرة حتى الآن.

ومن الشرائح التي تضررت مواقعها الاقتصادية في سورية، أصحاب المنشآت الحرفية والورشات الصغيرة وأصحاب الحيازات الزراعية، من جرّاء ارتفاع كلف الإنتاج، أو لفقدان وخراب تلك المنشآت، تعطّل الإنتاج بنسبة 60 في المئة، فلجأت الشرائح العليا من أبناء الطبقة الوسطى إلى الفرار، في موجات الهجرة واللجوء، مثلما ركبت السيارات الصينية قبل ذلك، فيما علقت الشرائح الدنيا من هذه الطبقة في خط الفقر الأعلى، وهم يرون كيف يواصل فساد النظام نهب نصف الناتج المحلي الإجمالي، وكيف تتمركز الثروة عند 10 في المئة فقط من السوريين، ويرون كيف ظهرت تشكيلات اجتماعية اقتصادية جديدة، وأخذت تتبلور في صورة “مافيوية” مرعبة، تستند إلى الجريمة المنظّمة والخطف وتجارة السلاح وتهريب المخدرات والسرقة العلنية. (7)

أورد مركز (فيريل) في ألمانيا أرقامًا، في تقرير له في تموز/ يوليو 2016، مؤكدًا أن العام 2016 هو الأخطر على المواطن السوري من جميع النواحي، وبخاصة الاقتصادية والاجتماعية، وبحسب التقرير فإنه قبل العام 2011 شكلت الطبقة الوسطى أكثر من 60 في المئة من المجتمع السوري، وبالرغم من أنها لم تكن متجانسة، من حيث التشكيل والمنبت الاجتماعي والديني، فإنها كانت تقود المجتمع، خاصة أنها تتكون من الموظفين والأطباء والمهندسين والمثقفين والمعلمين والأدباء والحرفيين وصغار التجار والكسبة والصناعيين، غير أن الطبقة الوسطى في العام 2016 لم تعد تشكل إلا نسبة 9.4 في المئة فقط من الشعب السوري، فقد خسرت مئاتِ الآلاف من أبناء الطبقة الوسطى، بسبب الهجرة أو القتل أو البطالة.

يقدّر تقرير (فيريل) نسبة السوريين الذين أصبحوا تحت خط الفقر العالمي، بنحو 86.7 في المئة، موضحًا أن تكاليف المعيشة ارتفعت خلال سنوات الحرب بشكل تدريجي، لتقفز في العام الأخير قفزات كبيرة، إلى أن وصلت إلى نسبة 11,55 في المئة، قياسًا بما كانت عليه قبل 2011 بالتوازي مع انخفاض القوة الشرائية للعملة السورية، إذ خسرت الليرة السورية ما يفوق 90 في المئة من قيمتها. (8)

ختامًا، إن الربيع العربي الذي تم تحويله، بفعل التدخلات الخارجية، إلى ما يشبه خريفًا حزينًا، أثر في وضع الطبقة الوسطى، في كل الدول العربية التي انطلقت فيها هذه الثورات، ومنها سورية، من حيث هجرتها وخسارتها لبنيتها التحتية: معامل، مصانع، محال تجارية، وأيضًا خسارتها أسواقها ومناخاتها المغذية لها، والتي كانت تمدها بالديمومة والاستمرارية؛ ما سدد ضربة قوية جدًا لها. بالمقابل، صعدت فئات أخرى من الفاسدين وتجار السلاح ومستغلي الأزمات والنفوذ، وهذه الفئات منبتها الريف والمراتب الدنيا من السلم الطبقي والاجتماعي؛ ما أثر -وما زال يؤثر- سلبًا، في البنى الفوقية من المنظومات الفكرية والسياسية والفنية والثقافية، وبالتالي، في مقومات التغيير الإيجابي المأمول.

الهوامش:

(1)  د. أحمد موسى بدوي (تحولات الطبقة الوسطى في الوطن العربي) مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت لبنان – 2013 ص 41

(2) محمد أحمد بنيس (الطبقة الوسطى ومستقبل السياسة العربية) العربي الجديد – 7-7-2017

(3) غسان الإمام (الطبقة الوسطى السورية والدولة الدينية) الشرق الأوسط 10 -12-2013

(4) أكرم البني (عن تحولات الطبقة الوسطى في سورية) الحياة – 18-11-2015

(5) غسان الإمام – مصدر سابق مذكور

(6) أيمن الشوفي (البحث عن الطبقة الوسطى في سورية) السفير العربي – 16-4-2015

(7) أيمن الشوفي مصدر سابق مذكور

(8) إيلين عثمان (سورية تفقد طبقتها الوسطى) عنب بلدي – 11-9 – 2016


حواس محمود


المصدر
جيرون