أسئلة في ذمة العدالة الدولية



يومًا بعد يوم، تزداد تراخيًا واضمحلالًا تلك الخطوط الحمراء التي وضعها المجتمع الدولي لمنع استخدام السلاح الكيمياوي في سورية، وتشجع النظام الحاكم على رفع وتيرة هجماته السامة ضد المناطق الخارجة عن سيطرته، ومعها يرتفع عدد الضحايا من المدنيين، فيما يتعثر عمل لجان التحقيق الدولية، بحيث يبدو وكأن مصير ملف السموم التي يستنشقها السوريون آيل إلى الطي، شأنه في ذلك شأن ملف المعتقلين.

ليس اكتشافًا التأكيد على أن استخدام السلاح الكيمياوي انتهاك صارخ، لا يحتمل البت بأمره المماطلة والتسويف؛ لأنه يُعدّ جريمة حرب من منظور ميثاق المحكمة الجنائية الدولية، فهذا السلاح الفتاك الذي يقتصر خطره القاتل على الكائنات الحية والطبيعة محرّمٌ دوليًا، بموجب اتفاقية “حظر الأسلحة الكيمياوية” التي تمنع حيازته واستخدامه وإنتاجه وتخزينه ونقله، وتلزم جميع الدول الموقعة على الاتفاقية بتدمير مخزونها من السلاح الكيمياوي، تحت إشراف منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، والقبول بإجراء “تفتيش بالتحدي”، أي القبول بقيام تفتيش مستعجل على أراضي أي دولة يُشتبه بامتثالها لبنود الاتفاقية.

قبل الثورة السورية، كانت التقارير الدولية وتوقعات الخبراء تشير إلى أن نظام الأسد يمتلك إحدى أكبر الترسانات الكيمياوية في العالم، تم تطويرها خلال عدة عقود في خمسة مواقع من سورية، تُنتج أسلحة تتضمن كميات كبيرة من غاز الخردل الحارق للجلد، وغاز الأعصاب القاتل (فياكس)، والسارين السام، لكن أحدًا لم يتوقع أن هذه الترسانة ستتولى خنق السوريين لا أعدائهم.

بدأ نظام الأسد باستخدام أسلحته الكيمياوية ضد السوريين منذ عام 2012، ولم يتوقف عن استخدامها حتى بعد مصادقته على معاهدة “حظر الأسلحة الكيمياوية”، في أيلول عام 2013، ولا بعد إعلان الأمم المتحدة عن تدمير كامل الترسانة الكيمياوية السورية عام 2014، ولم تردعه عن ذلك قرارات مجلس الأمن 2118، 2209، 2235، ولا آلية التحقيق التي انبثقت عنها عام 2015، وقد بلغت هجمات الكيمياوي التي نفذها النظام حتى أواسط الشهر الجاري 211 هجمة، تسببت في إصابة 6684 شخصًا، ومقتل ما لا يقل عن 1421 شخصًا، بينهم 187 طفلًا و244 سيدة، ومن الهجمات ثمانية نُفذت في إدلب وريف دمشق، بعد دخول اتفاقية خفض التصعيد حيّز التنفيذ في أيار/ مايو 2017، بحسب تقرير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” الصادر في 13 شباط/ فبراير 2018.

وبحسب التقرير، فقد تعددت أنواع الذخائر المحملة بالغازات السامة التي استخدمها النظام، من القنابل اليدوية والقنابل المتفجرة، إلى الذخائر الجوية والأرضية، ولم تكن جميع الهجمات على السوية نفسها من الأذى، لكن جميعها نُفذ بنيّة جرمية مبيّتة، وتكتيك واحد يشبه تكتيك الهجوم على سراقب في الرابع من شباط/ فبراير 2018، من حيث اختيار توقيت تكون فيه درجة الحرارة أخفض ما يمكن، لضمان انتشار الغاز، واستهداف المنشآت الطبية قبل بدء الهجمة، فقد تم تدمير مشفى معرة النعمان المركزي وإخراجه عن الخدمة، وقُصف المشفى الجراحي ومستوصف الرعاية الصحية في كفرنبل، فيما تكفل الطيران الروسي بقصف الطرق المؤدية إلى مكان الهجمة لإعاقة نقل المصابين.

تقرير الشبكة يتقاطع مع تقارير ونتائج عمل لجنة التفتيش الدولية في سورية التي أثبتت مسؤولية النظام عن أشرس الهجمات الكيمياوية، في الغوطتين عام 2013، وفي “خان شيخون” يوم الرابع من نيسان/ أبريل 2017. اللجنة التي لم ترضَ روسيا عن أدائها، واستخدمت حق (الفيتو) ثلاث مرات خلال شهر واحد، لمنعها من استئناف عملها، بعد أن انتهت ولايتها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017. فيما يتعامى النظام السوري عن الحقائق والتقارير، ويمضي قدمًا في نشر سمومه تحت مظلة الدعم الروسي، ثم يصر على إنكاره استخدام السلاح الكيمياوي ضد المدنيين، ويتهم المعارضة المسلحة بذلك، مؤكدًا على عدم أخلاقية هذا الفعل.

إذا كانت فصائل المعارضة المسلحة مسؤولة عن استخدام السلاح الكيمياوي، كما تدعي تصريحات المسؤولين السوريين، فكيف حصلت عليه ومن أين؟ ولماذا تستخدمه فقط في المناطق الخاضعة لها، وليس في مناطق النظام الذي يقاتلها منذ سنين؟ أسئلة ما من أحد قادر على الإجابة عنها سوى نظام الأسد، وادعاءاته بحد ذاتها تستدعي فتح أبواب التفتيش والتحقيق، وفقا لاتفاقية “حظر الأسلحة الكيمياوية”.

يوم الثالث عشر من شباط/ فبراير الجاري، نشرت وكالة (سبوتنيك) بيانًا ورد فيه أن أحد سكان إدلب أبلغ مركز المصالحة الروسي في سورية أن (جبهة النصرة) “قامت أمس بنقل أكثر من عشرين أسطوانة إلى سراقب، تحتوي على غاز الكلور، إضافة إلى أدوات وقائية على متن ثلاث سيارات، للتحضير لعملية استفزازية بمشاركة (الخوذ البيضاء)”، وأن ممثليّ (الخوذ البيضاء) قاموا بتمثيل “بروفة تقديم إسعافات أولية لمتسممين وهميين” من السكان المحليين، وأن ما حصل تم تصويره من قبل “مراسلين محترفين”، يحملون شعار محطة CNN. بحسب ما نشر موقع (عنب بلدي).

ما هذا البلاغ العجيب، وكيف حصل صاحبه على كل هذه المعلومات، ولماذا تتكبد “جبهة النصرة” (التي لم يعد لها وجود) عناء نقل أسطوانات الكلور، طالما أن الأمر برمته لا يتعدى حدود التمثيل؟! وهذه ليست المرة الأولى التي يحاول فيها الإعلام الروسي تضليل الرأي العام بنشر مثل هذه الأخبار، متعمدًا التشويش والطعن بمصداقية من يخاطرون بأنفسهم لإنقاذ المصابين وتوثيق الانتهاكات من (الخوذ البيضاء) والإعلاميين.

إذا كان لدى روسيا بالفعل شكوك وقرائن حول حيازة التنظيمات الإسلامية المتشددة للغازات السامة واستخدامها؛ فلماذا ترفع حق (الفيتو) في مجلس الأمن لعرقلة إجراء أي تحقيق نزيه بخصوص ملف الأسلحة الكيمياوية في سورية، من شأنه أن يدين من تحاربهم باسم القضاء على الإرهاب؟! أسئلة ستظل في ذمة العدالة الدولية إلى أن تأخذ مجراها، وإلى ذلك الحين سيظل السوريون يختنقون بسموم الأسد؛ لعدم توفر ما يكفي من الأدلة الدامغة، أيها المجتمع الدولي.


تهامة الجندي


المصدر
جيرون