on
حرب معلنة لا يريد أطرافها أن تندلع
اللافت أن الرأي العام كان محقاً في استبعاد نشوب حرب إقليمية بعد الغارات الإسرائيلية على مواقع عسكرية في العمق السوري تعود غالبيتها للقوات الإيرانية، ولم يخدعه إسقاط طائرة إسرائيلية أو عبارات التهديد والوعيد التي عادة ما يطلقها قادة تل أبيب وطهران ضد بعضهما بعضاً. وإذا استبعدنا نظرية المؤامرة التي يعتقد أصحابها بأن ما جرى مجرد مسرحية وزعت أدوارها جيداً لتسويغ ما بات يعرف بصفقة القرن، أو لتلميع وجه أنظمة الممانعة التي لم تعد تشكل خطراً جدياً على دولة إسرائيل، فثمة عامل جديد لا يصح اليوم إغفاله وقد ساهم في تثبيط تلك المواجهة العسكرية وتخميد تداعياتها، وهو دور موســكو المتصاعد في تقرير شؤون المنطقة، والتي ما أن أطلقت صفارة النهاية حتى امتثل جميع الأطراف لمطلب التهدئة ووقف التصعيد.
الكلمة المسموعة لقيادة الكرملين لم تتأت فقط من وزن سياسي فرضه تدخل عسكري قلب موازين القوى في سورية لمصلحة النظام وإيران، أو من انحسار فعالية واشنطن وتراجع دورها وتأثيرها عالمياً، أو نتيجة عمق المصالح الروسية وخشيتها من نشوب حرب إقليمية قد تخلط الأوراق بصورة لا ترضيها، وتعيد بناء مواقف واصطفافات تشرع الأبواب على تطورات ربما تجهض ما تخطط له وتفقدها فرصة تاريخية لتمكين نفوذها المشرقي، وإنما أيضاً بسبب حضور دوافع ومصالح ذاتية لدى مختلف الأطراف المعنية بالحرب للانصياع لإرادة موسكو ومطالبها.
تصح قراءة السبب في قوة اللوبي الصهيوني في روسيا وتنامي قدرته على التأثير وخلق أفضل التفاهمات بين موسكو وتل أبيب حول أحداث الشرق الأوسط، يحدوه وجود مليون ونصف مليون مستوطن إسرائيلي هاجروا من روسيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق ولا تزال تربطهم علاقات متعددة الأشكال مع بيئتهم القديمة، وتحدوه أساساً الوعود والتطمينات التي تقدمها قيادة الكرملين لحكومة إسرائيل بأولوية الحرص على أمنها ولجم تمدد طهران ومخططاتها، مثلما تصح قراءته من حاجة إيرانية متصاعدة للغطاء الروسي مع انحسار هامش مناورتها، وتفاقم مشكلاتها في الإقليم، وفشل رهانها بأن يفضي توقيع الاتفاق النووي إلى تخفيف حدة أزمتها الاقتصادية، ناهيكم بتواتر التهديدات ضدها من الرئيس ترامب وقادة أميركيون بصفتها راعية للإرهاب ولعدم الاستقرار في المنطقة. فكيف الحال مع وضوح دعم واشنطن للغارات الإسرائيلية وحماستها لتكرارها بأمل لجم شهية إيران التوسعية وتحجيم دورها الإقليمي؟
صحيح أن إسرائيل لا تخفي سعيها إلى النيل من أية محاولة لتغيير الستاتيكو القائم، وهي مستعدة للذهاب بعيداً لمنع نقل أسلحة متطورة إلى حزب الله ولإجهاض خطط الحرس الثوري في خلق ركائز عسكرية حولها ونشر بعض الميليشيات التابعة له بالقرب من حدودها، لكن الصحيح أيضاً أن ليس ثمة حافز ملح عندها كي تخوض حرباً ضد إيران وحلفائها، ما دامت قادرة بضربات مركزة على تحقيق أهدافها، وما دامت تدرك أن ما يعرف بمحور «المقاومة والممانعة» لم يعد يشكل خطراً داهماً عليها، وأن قدراته استنزفت ولا تزال تستنزف في صراعات التمدد الإقليمي، وما دامت تميل في حساباتها الإستراتيجية لاستثمار هذا المحور، إن لشل الحياة السياسية في بلدان الطوق وتدمير فرص بنائها وتطورها، وإن لإشغال الأطراف العربية ومحاصرتها.
منطقياً، وربطاً بالحراك الشعبي الفلسطيني والغضب العربي الرافضين لقرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، يمكن تفهم الفكرة التي ترجح نشوب حرب إقليمية بين تل أبيب وطهران، بصفتها إحدى الأوراق التي يمكن أن تلجأ إليها إيران للتهرب من معالجة الأسباب الحقيقية لأزماتها، ولتسويغ سياستها التدخلية في شؤون الإقليم، ولاستعادة شعبية اهتزت بصورة غير مسبوقة في الشارع العربي نتيجة ممارساتها العنفية والدموية في غير بلد، والأهم للرد على مستجدات بدأت تقلقها، منها تفاقم الاحتقانات الداخلية التي تجلت مؤخراً بتظاهرات شعبية مناهضة للحكومة شملت العديد من المدن، ومنها تصاعد حملة البيت الأبيض ضدها، من دون أن نغفل خسائر حلفائها في اليمن، وتحسّبها من أن يضعف تقدم الدور الروسي من وزنها ودورها في سورية والمنطقة.
لكن هيهات أن تخوض إيران مغامرة الحرب، وقد أنهكتها التدخلات المتعددة في سورية والعراق واليمن، فكيف الحال وأهل الحكم في طهران يدركون جيداً بأن زمن المناورات بحروب خارجية للالتفاف على الأزمة الداخلية وتشويه أسبابها قد ولى، بل يتحسبون من أن يؤدي افتعال صراع عسكري واسع مع إسرائيل في الظرف الراهن وما قد يرافقه من غارات تدميرية، إلى عكس الأهداف التي يبتغونها، والقصد أنهم يتحسبون من أن تفضح مناخات الحرب إن طال أمدها عوامل ضعفهم وزيف شعاراتهم وعمق الهوة التي تفصلهم عن مجتمعهم، ما يعجل في ردود أفعال الفئات المتضررة من سياستهم التدخلية التي كلفت الشعب الإيراني الكثير، ويزيد من احتمال تفكك قواهم وتحالفاتهم، كما تتراجع قبضتهم وعزم سيطرتهم في العراق وسورية ولبنان واليمن، فكيف الحال والجميع بات يعرف أن إعادة إحياء هموم مواجهة إسرائيل فقدت تأثيرها القديم عند بشر ملوا شعارات المقاومة والممانعة وخبروا جيداً كيف وظفت هذه الشعارات لتعزيز أسباب التسلط والاستئثار والقمع والفساد؟
الجميع يهدد ويتوعد بالحرب، ولكن الجميع يحرص عملياً على تجنبها، ليصح تفسير تصعيد طهران الأخير والتي طالما اكتفت بـ «أضعف الإيمان» رداً على ضربات إسرائيلية أكثر إيلاماً، بأنه محاولة لحفظ ماء الوجه ضد استباحة إسرائيلية طالت زمنياً وطاولت الكثير من مواقعها ومراكز حلفائها، أو في أحسن الأحوال كخيار اضطراري باتت الحاجة لتوظيفه تعبوياً وإعلامياً ملحة، إن لترميم مكانتها ومكانة محور الممانعة، وإن لشــحذ الهمم للمضي قدماً بخططها التوسعية، وإن لكسب نقاط تخفف من شدة أزماتها ومن مسؤوليتها عن تفاقم الاحتقانات والصراعات الطائفية والمذهبية وما آلت إليه أوضاع المنطقة من خراب.
(*) كاتب سوري
الحياة
المصدر
جيرون