on
سورية وصراع البنى
تطرح علينا الثورة السورية، وثورات الربيع العربي عمومًا، أسئلة إما أنها لم تكن في الحسبان، أو أن الشروط المعيشة لم تكن تسمح بإبرازها أو الإجابة عنها، أو لأن العقل البليد لا يستطيع أن يرى ما هو في متناول العين.
من هذه الأسئلة: هل الصراع المسلح الآن، بين القوى الرافضة للنظام وقوى النظام، صراع أفراد أم صراع بنى؟
فرضيتي تقوم على ما يلي: لو تركنا جانبًا جمهورًا من النخبة ذات الفردية العالية؛ فإن البنى هي التي تتصارع اليوم في بلاد العرب، وبخاصة في بلاد الربيع العربي، والفرد الذي كان في حال نسيان مؤقتة سرعان ما تذكر انتماءه للبنية.
فالطائفة والطبقة والمنطقة والإثنية والقرية والمدينة والسلطة والحزب هي مفاهيم دالة على بنى تكونت تاريخيًا، وتعيد إنتاج نفسها بتكون جديد وتغتني بعناصر جديدة، وشروط حياة متغيرة. فالفرد -والحال هذه- هو التكثيف الشديد للبنية التي تمشي على قدمين.
البنية هنا، جملة من العلاقات الترابطية بين عناصر داخلية مادية وذهنية، تحافظ على استمرار البنية واستقلالها الذاتي، إذا لم تتوافر شروط تاريخية لانهيارها.
فالطائفة، مثلًا، هي بنية تنطوي على جملة عناصر أساسية: المعتقد، الثقافة، الذهنية، الانتماءات الطبقية، الوعي الذاتي، الأوهام. لكن العنصر الأساس الذي يمنح البنية الطائفية وجودها هو الشعور الواعي بالانتماء الديني.
والبنية القروية بنية تكونت في العلاقة الساكنة مع الأرض، ومجتمع القرية ذي علاقات القرابة القائمة على رابطة الدم، والمطبوخ البسيط، والوعي الضيق بالعالم. فيما البنية المدينية بنية أرحب، وذات علاقة بالحرفة والتجارة والسوق وعلاقات العمل والازدهار الثقافي. وقس على ذلك بنية القبيلة، والطبقة والمهنة وهكذا.
الدولة الحديثة، بالمعنى السياسي الفلسفي للكلمة، هي التي نقلت وتنقل المجتمع من بناه الصلبة المغلقة إلى بنية مجتمعية ذات ولاء وانتماء للدولة، دون أن تلغي تمامًا مظاهر البنى القديمة، لكنها مظاهر لا تعبّر عن ماهية الدولة الحديثة، وهذا ما عبّر عنه الفكر السياسي بمفهوم المواطنة، حيث المواطنة ليست فقط مساواة الناس في الحق والواجب والحرية فقط، وإنما التحرر من سلطة البنى الضيقة، وتحرير المجتمع من صراع البنى المغلقة، فالطائفة لا تزول في الدولة الحديثة، بل الذي يزول هو الطائفية كبنية تصنع الفرد.
وإذا أخذنا سورية مثالًا، لنطبق عليها أطاريحنا السابقة؛ فالذي نخلص إليه هو الآتي:
كانت سورية المستقلة حديثًا سائرة في طريق الرأسمالية، والرأسمالية تشكيلة اقتصادية – اجتماعية أهم ما ينتج عنها توحيد المجتمع عبر توحيد السوق، وقيام الدولة الرأسمالية بعملية تحطيم البنى ما قبل الرأسمالية، فالإنتاج الزراعي الرأسمالي يحطم العلاقات الفلاحية التقليدية، وما يرافقها من قيم وعادات ووعي. وقد أدى انقطاع حركة التطور الرأسمالي، قبل إنجاز الحد الأدنى مما يجب إنجازه رأسماليًا، إلى بقاء أساس البنى القديمة.
لم تفشل الجماعة الحاكمة التي استولت على السلطة عام 1970 في بناء الدولة الحديثة؛ لأن إنجاز هذا الأمر بالأصل لم يكن ضمن استراتيجية حكمها، إذ كان هدفها الرئيس هو البقاء في السلطة عبر قوة مسلحة عنفية ذات عصبية ضيقة، وكانت تقيم علاقاتها مع بنى مجتمعية ما قبل الدولة؛ لأن بناء الدولة لا يستقيم مع سلطة ذات عصبية ضيقة تحكم بالقوة.
كان لا بدّ، من أجل تحقيق ذلك، من توفير مؤسسات القوة العنفية منذ السنوات الأولى من جهة، وتوفير الأشكال الخارجة على الطريقة السوفيتية التي لا توحي بالعصبيات الضيقة، من جهة ثانية، والتي بدورها ستخضع لمؤسسات القوة.
فكانت مؤسسة الجيش المعبّرَ الأبرز على استمرار البنية التقليدية الريفية من جهة، والمناطقية والطائفية من جهة ثانية، وداخل هذه المؤسسة نمَت أسوأ ظاهرة عسكرية في تاريخ بلدان العالم، وهي ظاهرة “سرايا الدفاع” التي قامت على مبدأ الاستباحة خارج أي سلطة عليها، من استباحة القيم إلى استباحة الحق بكل أنواعه. أما مؤسسة العنف المطلق فكانت أجهزة الأمن بكل أنواعها، وقد تحولت إلى سلطة مطلقة، لم يكن همها الحفاظ على السلطة عبر العنف غير المسبوق فقط، وإنما الحفاظ على البنى التقليدية للحيلولة دون قيام مجتمع المواطنة. كل ذلك ترافق مع تحطيم للنخبة الأهلية والاقتصادية الريفية والمدينية، ومن جميع الطوائف الإسلامية والمسيحية، التي كانت تتمتع بسلطة أخلاقية واجتماعية، حيث تحولت فروع الأمن ومفارزها ومخبروها وبعض قيادات المؤسسات الحزبية، إلى بديل مفروض، ولكن غير معترف به أخلاقيًا.
لم تدرِ الجماعة الحاكمة أنها، بسياستها هذه وحرمان المجتمع من تكوين شخصيته السياسية والمدنية والاقتصادية خوفًا من المجتمع، أبقَت على البنى التي ليس باستطاعتها أن تلجم عنفها، حين يصير الصراع صراعًا بين بنى.
حين بدأت الثورة السلمية ذات الروح الشبابية غير الطائفية؛ سارع النظام إلى استخدام بنيته الطائفية فورًا بأدواتها العسكرية والأمنية، وانشق جزء من العاملين السنّة في الجيش، ضباطًا وصف ضباط وجنودًا، ولم يطل الوقت حتى انتقل استخدام العنف، كردة فعل طبيعية، إلى جزءٍ من الطائفة السنية. وراحت الحركات السنية وغير السنية تعلن عن سنّيتها في الصراع، عبر الأسماء الدالة عليها: أحرار الشام، جيش الإسلام، فيلق الرحمن، فيلق الشام، جبهة أنصار الإسلام، لواء أحفاد صلاح الدين، النصرة، دولة الخلافة.. إلخ، وفي مقابل هذه البنى المسلحة السنية، كانت أيضًا البنى المسلحة العلوية والشيعية لواء الباقر، لواء أبو الفضل العباس، لواء فاطميون، لواء زينبيون، لواء الوعد الصادق، “حزب الله” اللبناني، “حزب الله” السوري، لواء ذو الفقار، لواء أسود الحسين ولواء الرضا.
وكوّن الأكراد البنى المسلحة الكردية بأهداف كردية، فيما الدروز تولوا حماية مناطقهم، وغالبًا ما وجد بعض المسيحيين في “الحزب السوري القومي” الذي هو الآخر صار طائفيًا، والعشائر هي الأخرى كونت ميليشياتها. وهكذا اجتمعت كل البنى المتخلفة بماهياتها الدينية الطائفية والإثنية والعشائرية في صراع البنى، ولم تعد الجماعة الحاكمة إلا بنية من هذه البنى التي حافظت عليها، وحالت دون انتصار بنية المجتمع – الدولة، وحفرت قبرها بيدها في الوقت نفسه.
وحدها القوى الديمقراطية – الوطنية السورية، وجدت نفسها تعزف موسيقاها الوطنية، خارج هذا النشاز المدمر، وليست بقادرة على الدخول في صراع البنى؛ لأنها طرحت نفسها بالأصل كتعبير عن المجتمع السوري وغايتها الدولة الديمقراطية، ولأن هويتها الفكرية والأخلاقية بعيدة كل البعد عن الهويات الطائفية والإثنية.
بعد أن اتّخذ الصراع الآن صراع البنى المتخلفة، ذات الدعم الدولي؛ فإن على القوى الديمقراطية الوطنية المترفعة عن هذا النوع من الصراع، أن تتمتع بخيال واسع، لتكون قوة بديلة للوسخ التاريخي كله.
أحمد برقاوي
المصدر
جيرون