عن “لذّة التخلّف”!



في قصَّة للكاتب السوري محمود عبد الواحد، يُلاحظ معلّمٌ أن الكرة التي يلعب بها تلاميذه عبارة عن مجموعة خِرَقٍ بالية جمعوها وكوَّروها واحكموا رباطها، وشرعوا يلعبون بها في ساحة القرية بطريقة “بدائية” للغاية؛ فأحضر لهم مفاجأة صعقتهم تمامًا: كرة قدم جلدية، ملساء، لامعة، حقيقية، أطارت عقولهم وبثَّت فيهم البهجة العارمة.

قال لهم، بعد أن طلب منهم رمي الكرة القماشيّة في المزبلة: “لاحظت أنكم تلعبون بشكل همجي للغاية، وتركضون وتعوون مثل الكلاب الضالة. الرياضة، يا أبنائي، علم وحضارة ولها أصولها وقوانينها، وسأحاول أن أفيدكم بما أعرفه في هذا المجال”.

وعندما حاول تدريبهم على اللعبة، “وفق الأصول والقوانين” المعروفة عنها؛ تسلَّلت إليهم الخيبة أولًا، ثم الضجر المميت، لينتهوا إلى استياء كامل ونفور صريح من اللعبة وقوانينها وتوّقفاتها المتكررة، عائدين -ثانية- إلى كرتهم القديمة الملفوفة من الخرق البالية، وإلى ركضهم الطليق العفوي و”عوائهم مثل الكلاب الضالة” -على حدِّ تعبير معلمهم- بعيدًا عن المدرسة الضيقة وقوانين الرياضة المعمول بها!

ربما أكسبهم المعلم المتنوّر، في تلك القرية النائية المنسيّة، معلومات جديدة و”حضارية”، غير أنه أفقدهم تلك اللذة والبهجة والركض الطليق و”العواء الحر”، كما أحبوا دائمًا أن يلعبوا!

في تقاطع بين القصة والحياة، أذكر رجلًا قضى الردح الأكبر من عمره في دكان صغيرة مهلهلة، جامعًا فيها ما هبَّ ودبَّ من حلوى وملابس وأدوات وألعاب وعطور عجيبة غريبة، يتراكم بعضها فوق بعض على نحو “سريالي”، بحيث كان يبدو -جرّاء تلاصقها- غارقًا فيها، بل جزءًا منها، لا تميّزه العين عنها سوى حين يتحرّك بين أكوامها.

وإلى اليوم، ما زال يدهشني كيف كان الزبائن يتقاطرون إليه، ويطلبون منه حاجات متنوعة شتى لا رابط بينها، فيسارع -في لمح البصر- إلى مدّ يديه، أو عصاه، ليطال الغرض المطلوب، من قلب الفوضى التي تُعجز التصوّر، من دون أن تعجز حاسَّته أو تُخطئ، ولو لمرة واحدة، في العثور على مُراده!

وأذكر -أيضًا- أن أبناءه حين اقترحوا عليه وألحّوا، ثم ألزموه إلزامًا، بهدم الدكان وبنائها من جديد، وتوزيع الأغراض فيها على نحو مرتّب و”حضاري”… كيف بدا التململ على العجوز واضحًا، ثم راح يتغيّب عن دكانه، إلى أن فقد “شهيته” التي كانت له في البيع والشراء، فعاف الدكان لأبنائه، واتخذ من المصطبة أمام داره مطرحًا جديدًا لقضاء نهاره، لا عمل له سوى أن يدرج لفافته، ويدرج معها ما تبقّى من أيامه إلى أن رحل.

قد يبدو “التخلّف” وصفة جاهزة لحال أولئك التلاميذ، مقابل “التقدم” الذي سعى معلمهم لأن يكونوا عليه، وكذا سيبدو حال الدكان العتيقة في ظل فوضاها وارتجال توزيع الأغراض فيها، مقابل حداثة البناء وترتيب البضائع واتساقها. بل قد يبدو من الرومانسية الفارغة الانحياز لما كان في ظلّ ما صار… غير أن البهجة أو السعادة أو المتعة لا تتحصّل على الدوام وفقًا لقوانين العقل وترتيبات المنطق والأخذ بالجديد المتفق عليه.

شيء ما، أو أشياء كثيرة، في دواخلنا، ستظل عصيّة على الضبط والقنونة والاحتكام لمسار واحد متفق عليه. ولعل هذا ما شغل علماء الاجتماع والسياسة والنفس، سواء في الدول “المتقدمة” أو الأخرى “المتخلفة”، وهو نفسه ما دعا عددًا من المفكرين والفلاسفة والمشتغلين بالسياسة لأن يعاودوا النظر -المرة بعد المرة- في مفهومي “التقدّم” و “التخلّف”، لا على الصعيد الصناعي والزراعي والتجاري والتشريعي فحسب، بل قبل ذلك على صعيد الإنسان نفسه، واتجاه عالمه الداخلي، تصاعدًا نحو فضاء السعادة، أو هبوطًا في قيعان الكآبة والإحباط والتعاسة!


إبراهيم صموئيل


المصدر
جيرون