أمام شبح أفغانستان هل ستتغير استراتيجية موسكو في سورية



قبل الحديث عن حيثيات التدخل الروسي في سورية ونتائجه، أصبح ضروريًا الحديث عن الأزمة السورية بشكل عام وشامل؛ لكي نفهم الدور الروسي أكثر. وهل تم جر الروس إلى ورطة أو مستنقع قد ينتهي بنموذج أفغانستان!

على مستوى التفاصيل، يمكن الاستنتاج أن القيادة الروسية أثبتت دورها الفاعل والمهيمن في الملف السوري، وقد مررت أجندتها السياسية والعسكرية، سواء بمباركة أميركية أم بهدف توريطهم، لتأتي اللحظة الحاسمة، وينتقم الأميركيون من روسيا ومن وحلفائها: إيران ونظام الأسد، ليس حبًا بالسوريين بل لإدخال روسيا في متاهات ستنعكس في النهاية على الوضع الداخلي في روسيا. وأخطر ما في الأمر أن الأحداث القريبة الماضية شكلت ضربة مؤلمة جدًا للقيادات السياسية والعسكرية والأمنية الروسية، في وقتٍ حرص الرئيس الروسي على الإعلان بنفسه، من قلب قاعدة حميميم في الأرض السورية، عن الانتصار الكبير على تنظيم (داعش) الإرهابي، وذلك على أبواب الانتخابات الرئاسية في روسيا، وفي وقت تعاني روسيا من العقوبات الغربية المزعجة، منذ أحداث أوكرانيا وضم القرم لروسيا عام 2014.

مصائب عدة انهالت على روسيا في الأشهر الأخيرة؛ من الهجوم على قاعدة حميميم، قبيل احتفالات عيد رأس السنة الميلادية الذي يعتبره الروس، بلا استثناء، أهم الأعياد. ولا نعرف بالضبط حجم الخسائر في حميميم التي تحميها أحدث منظومات الصواريخ في العالم (إس-400)، ولكن طائرات الدرون (الموجّهة)، التي اتهمت موسكو الأميركيين بها، فعلت فعلتها، وأقلقت الكريملين ونغصت عليهم عيد رأس السنة. ثم تبعها سقوط طائرة روسية مقاتلة (سو-24) في إدلب بصاروخ قد يكون مصدره أميركي. وجاء سقوط طائرة مدنية روسية في ضواحي موسكو ومقتل 71 مواطنًا، بعد حادث الهجوم الأميركي الكبير على قوات روسية غير نظامية في دير الزور، سقط فيها -وفق مصادر غير رسمية- ما لا يقل عن 300 روسي.

حادث الهجوم الأميركي الكاسح على القوات الأمنية الخاصة التي يتبرأ منها المسؤولون الروس ويعتبرونها مرتزقة بعقود خاصة، تتبع لشركة أمنية خاصة لصاحبها طباخ الرئيس بوتين السابق، وهو نفسه صاحب شركة (ترانس غاز ستروي) التي كانت تعمل شرقي حمص في سورية، قبل الثورة السورية، واستمرت في عملها بإنتاج الغاز وتصديره للنظام، بحماية عناصر من (داعش) يتقنون اللغة الروسية.

الهجوم الأميركي في دير الزور لاقى صمتًا مريعًا من قبل كل المؤسسات الحكومية الروسية لعدة أيام، وكان هناك نفي من وزارة الدفاع حول عدد القتلى أو حتى وجود مقاتلين روس في تلك المنطقة، لينتهي الأمر إلى إعلان الناطقة باسم الخارجية الروسية زاخاروفا، منذ يومين، أن عدد القتلى الروس بلغ 5 أشخاص، ولكن المحللين الروس ومقاتلين سابقين في شرقي أوكرانيا (في منطقة الدونباس) نقلوا عن جرحى في تلك الحادثة، يُعالجون حاليًا في مستشفيات عسكرية روسية، أن عدد القتلى لا يقل عن 400 شخص. ويتحدث الروس بألم شديد عن كيفية تعامل القيادة الروسية ببرودة دم، مع مقتل مئات الشباب الروس الذين ذهبوا للدفاع علن مصالح روسيا وللقضاء على الإرهاب الذي يهدد أمنها.

قصة الهجوم تعود إلى أن قوات أمنية خاصة تشرف عليها جهات روسية حاولت السيطرة على مصنع للنفط أو قاعدة سرية أميركية شرقي دير الزور. ولكن الأميركيين نبّهوا الجنرالات الروس إلى أن هناك تحضيرًا لهجوم على مواقعهم وحذروا من ذلك، فنفى الروس أي علاقة لهم بالموضوع. وقال وزير الدفاع الأميركي: “إننا قضينا على القوات المهاجمة لمواقعنا، معتبرين أنه لا يوجد بينها مقاتلون روس”. ولكن قائدًا عسكريًا من (قوات سورية الديمقراطية) أبلغ الجنرال الروسي بضرورة وقف الهجوم، فنفى الجنرال علاقته بالموضوع. وعندما بدأ التدمير للقوات المتقدمة، طلب الروس وقف القتال لسحب الجثث والقوات إلى الخلف، فرفض التحالف ذلك؛ وهكذا حدثت مجزرة رهيبة. أو كما يقول محلل عسكري روسي “لقد قتل الأميركيون شبابنا الروس بكل قسوة وبلا رحمة”. ويقول جنرال روسي إن المشكلة تكمن في التفوق الأميركي بالسلاح والاستخبارات؛ فقد كان السلاح الذي بيد القوات الروسية ليس أكثر من رشاش كلاشينكوف، بينما استخدم الأميركيون أحدث الأسلحة، وظهر أن لديهم معلومات استخباراتية دقيقة عن القوات الروسية التي كانت تسير على شكل طابور، فسحقوها بشكل كامل.

يقول الجنرال إيفاشوف –وهو نائب وزير دفاع أسبق- إن الأمريكيين أثبتوا تفوقهم بالسلاح والاستخبارات وبالتخطيط، فأين إبراز العضلات الروسي، وهل أخاف الأميركيين وجودُ سلاح نووي لدى روسيا؟

الحقيقة أن الروس كمن يبلع السكين، لا يستطيعون الاعتراف بمقتل المئات من مواطنيهم على أيدي ألد أعدائهم، وهم عاجزون عن الرد.

تعجّ وسائل التواصل الاجتماعي بمشاهد فيديو تُعبّر عن سخطٍ وانزعاجٍ كبيرين لمواطنين روس من القيادة في موسكو؛ بسبب عدم اعترافها بمقتل مئات الروس، وكأن أرواحهم لا تساوي شيئًا، أو قد تساوي عدة آلاف من الدولارات. يقول محلل سياسي في شريط فيديو: “عار علينا أن يُغَرّرَ بشبابنا ليموتوا في أرض لا نعرف ما الذي أخذهم إليها”. ويتساءل ما هي مصلحة روسيا في سورية؟ ولماذا لا تعترف القيادة الروسية بالقتلى وتعلن أسماءهم، وتسمح لأهاليهم أن يشيّعوا جثامينهم بما يستحقونه -وفق المنظور الروسي- من احترام وتقدير.

يطالب الجنرال إيفاشوف بتقديم دعوى ضد القيادة العسكرية الروسية؛ لأنها المسؤولة عن ذهاب هؤلاء الشباب الروس إلى سورية، كما فعلوا سابقًا في أوكرانيا، ولأنهم يموتون ولا يُعلن عن أسمائهم.

أعتقد أن الأميركيين نصبوا فخًا للروس في سورية، وأوهموهم بأن الطريق مفتوح أمامهم لإدارة الملف السوري؛ فجرّوهم إلى حرب لا تُعرف نهايتها، ووضعوهم في قلب النار السورية. وهذا السلوك الأميركي -برأيي- مبني على تفاهم مع روسيا، جاء على هوى الروس. ولكنه في الحقيقة يخفي أمرًا خطيرًا، دبّره الأميركيون بدقة وأخرجوه بمساعدة أدوات عديدة من (داعش) و(قوات سورية الديمقراطية) إلى (إسرائيل) والميليشيات الإيرانية. فكلهم يدورون في فلك السياسة الأميركية وينفذون خططًا، سواء بإرادتهم أم مضطرين.

دخلت روسيا سورية، بهدف تحقيق مصالح جيوسياسية وعسكرية واقتصادية، ولكن المناطق النفطية في سورية بيد الأميركيين، والمصالح الاقتصادية لم تتحقق، ولن تتحقق إلا بخلق استقرار وأمان في سورية، وهذا مرتبط برحيل عصابة الأسد أصل البلاء والفوضى والدمار في سورية، فالروس وضعوا بيضَهم في سلة مثقوبة يحملها بشار الأسد ومن يدعمه.

يقول بعض المرشحين للرئاسة الروسية إنهم إذا نجحوا؛ فسيسحبون فورًا قواتهم من سورية، لأن الحرب في سورية برأيهم لا ناقة للروس فيها ولا جمل، هي حرب مجنونة لن توصل الروس إلى ما يصبون إليه، فالأميركيون و(إسرائيل) لهم بالمرصاد.

متى يُدرك الروس أن مصالحهم مرتبطة بالشعب السوري، ولن يكون هناك استقرار، ما دام بشار وعصابته المجرمة في دمشق، وأخطأت روسيا كثيرًا عندما ربطت مصالحها بنظام قاتل وفاسد.

لكن لم يفت الوقت، ويمكن للقيادة الروسية استدراك الأمور، والعمل على تحقيق مقررات (جنيف 1) وقرار مجلس الأمن 2254، وجوهرهما تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحية، بمشاركة الموالين والمعارضة والفئات الصامتة، فسورية الجديدة التي قدم من أجلها السوريون مليون شهيد ستتحقق، والخاسر في النهاية هو من يعرقل تحقيق هذا المطلب السوري المشروع.

أختتم بكلمات الصحافي الروسي الشاب إيغور سوبوتين الذي عبّر عن حقيقة الموقف بقوله: “الأضرار التي لحقت بالسوريين، وبالبنية التحتية في البلاد، تُمثّل مسألة أكثر تعقيدًا؛ إذ أصبح من المستحيل استعادة النظام الذي كان قائمًا قبل عام 2011 مع إبقاء الأسد في منصب الرئيس مع جهاز أمن الدولة نفسه. إضافة إلى أن عمليات إعادة البناء المادي ستضطر روسيا إلى الاستعانة بدعم دول الخليج، ناهيك عن عملية لإعادة بناء المجتمع السوري الذي يمثل التحدي الأكثر صعوبة”، ويخلص الكاتب إلى أن هذه العوامل “تتطلب من القيادة الروسية إجراء تعديلات على استراتيجيتها الحالية في سورية”.


محمود الحمزة


المصدر
جيرون