عن ثِقلَي واشنطن وموسكو



السورية نت - محمد برهومة

إذا كانت إدارة الرئيس ترامب تمكّنتْ عبر استحداث مظلة الدول الست (أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والسعودية والأردن) من بعثِ رسالة عن رغبتها وقدرتها على إحداث توازنات ومعادلات جديدة في الميدان السوري، فإن هذا مثال عميق الإيحاءات لمن يوازن بين ثقلي واشنطن وموسكو في مجريات هذا الملف. عملية الموازنة تنطلق من مدى قوة الرغبة في واشنطن للاستثمار (الموارد التي تُوضع) في هذا الملف أو ضعفها، ومدى استمرارها في سياسة الانكفاء عن دورها القيادي في المنطقة، أو التراجع عنها بدرجة أو أخرى، هنا وهناك.

ثمة مساحة التباس وغموض هنا، وإشارات متناقضة أحياناً، لكن ما هو واضح أنّ الثقل الأميركي تبدّى في فشل مؤتمر سوتشي في أن يكون مظلة جامعة تتخطى محطة جنيف. كان الغياب الأميركي عن سوتشي سبباً في ذلك. الثقل تبدّى أيضاً في تجـــاوز إدارة تــرامب التفاهمات التي نسجهــــا بوتين مع أوباما منذ أيلول (سبتمبر) 2015، تاريخ التدخل العسكري الروسي في بلاد الشام. ومع أن هذا التدخل أجهز على إطار «أصدقاء سورية»، فإن ما نشهده اليوم أنّ هناك 8 قـــواعد عسكرية أميركية في سورية، وسيطرة أميركية، بمساعدة الحلفاء المحليين، على ما نسبته 30-40 في المئة من الأراضي السورية. هذا يعكس بعض أسباب توتر العلاقة بين واشنطن وأنقرة، فعوضاً عن أنّ أنقرة تغيرتْ، ولم تتصدَّ كما يجب لـ«داعش»، فإن لواشنطن (وحلفاء أوروبيين، مثل برلين) بدائل إستراتيجية عن «إنجرليك»، وسوى ذلك من مكونات العلاقة التاريخية.

وقد ظهر في زيارة الوزير تيلرسون الأخيرة إلى تركيا مقدار تراجع الثقة بين عضوي «الناتو»، ففيما كان مولود جاويش أوغلو يؤكد، مثلاً، أن ثمة توافقات تركية- أميركية على انسحابات من منبج، كان نظيره تيلرسون مصرّاً على الأهمية الإستراتيجية التي تحظى بها منبج.

حادث إسقاط طائرة «إف 16» الإسرائيلية، أظهر الفارق بين قوة عظمى (روسيا) وبين القوى الإقليمية (إسرائيل، إيران، تركيا)، فلولا الضوء الأخضر الروسي لما حدث الإسقاط، ولولا الإدراك الروسي بأن ذلك لا يعني تعديلاً للتوازنات العسكرية، كما اشتهت إيران أن تعلّق على الحادث، لما تمكنت تل أبيب من إعادة ضرباتها الجوية وتأكيد خطوطها الحمر (لا قواعد عسكرية إيرانية أو ميليشيات قرب حدودها مع سورية، ولا أسلحة نوعية تهرَّب لحزب الله من سورية).

في مقاله المهم في «فورين أفيرز» (آذار- مارس- نيسان- أبريل-1999) تحت عنوان «القوة العظمى الوحيدة»، ذهب صموئيل هَنتينغتون إلى القول إن أميركا تتوافر، من دون منازع، على ست ركائز من القوة: الاقتصاد والجيش والديبلوماسية والإيديولوجيا [المبادئ] والتكنولوجيا والثقافة. ومن المفيد حضور هذا الفهم عند مقارنة ثقلي موسكو وواشنطن. ومع ذلك فإن تفوّق أميركا بمفهوم القوة الشاملة واجه، ولايزال، تحديات، خصوصاً مع الولاية الثانية لأوباما، الذي لم يتمكن، في الملف السوري مثلاً، من دمج البراغماتية بالقيم الأميركية، ثمّ جاءت شعبوية ترامب لتنتقص المزيد من قوة الديبلوماسية والمبادئ والثقافة، وتضرّ بالصورة الذهنية لأميركا، وكان القرار حول القدس نموذجاً ساطعاً لذلك.

كلّما أخفقت أميركا (وأوروبا) في المواءمة بين المصالح والمبادئ يخسر العرب (...) معها، وهذا ميدان إستراتيجي للعمل الديبلوماسي العربي، وضبط بوصلة حركته، وينبغي أن يكون، مثلاً، على أجندة شروط أو طبيعة المشاركة العربية في إعادة إعمار ما هدّمته الحروب والصراعات في المنطقة (كتأكيد ضرورة تفكيك أو خروج جميع المليشيات من سورية والعراق). ومثلما أن القوة الأميركية تضمّ ركائز متعددة، فإن صنّاع هذه القوة في أميركا متعددون، ومن الحيويّ مدّ جسور التواصل والشراكة معهم، وهذا سيبقى يواجه صعوبات وإخفاقات ما بقيتْ مساحات الخلاف العربي- العربي متسعة.




المصدر