ترتجف حياتي حين أراكَ من النافذة



يذكرني عيد الحب بصدفة لغوية جميلة حدثت منذ سبع سنوات، أكره لون قميص ذاك المساء، وأحب أزراره المفتوحة للطيور، سميتُ بيتي الجديد في دفتر مذكراتي “فيرجينا وولف“، حين فقدتُ كتابها “غرفة تخص المرء وحده“، وتركتُ مكانه في المكتبة فارغًا.

السكن في شارع يسميه الغرباء (شارع العشاق)، لم أترك الأحاديث التي كانت تهمس في “باب توما” وحيدةً، وزرعتُ تحت النافذة ياسمينة، وألصقت على الباب الخشبي العتيق صورةً ضبابيةً لأصابع رجل وامرأة تعصرُ الوقت، لم يتغير شيء الآن، الغياب كذبة، أنا وغرفتي المائلة في باب توما، نتمشى بين أنفاس العشاق القديمة، وكأن المكان يمشي ورائي دائمًا.

في آخر الشارع حديقةٌ مغلقةٌ على الدوام، لم يسبق لي أن مررت قربها ورأيت أبوابها مشرعة لغرباء مثلي، أمرّ بهدوء متجاهلةً بريق عيون القطط بين قضبان الباب الحديدي، وفي وقت واحد نرمي التحية على الذكريات، أنا ومقاعد الحديقة.

العشاق صدّقوا هذا الفراغ، أحضروا زهورهم وأقاموا على أطراف السور مقاعدهم الأرضية.. بائع القهوة زين عربته بالحبق وفيروز.. كل أغراض وثياب وعطور وأصدقاء الحديقة، كانوا موجودين سوى الحديقة.. الجميع آمن بالشجر داخل الحديقة، كفكرة في الهواء، وبنى في الخارج قبّةً من الحكايا.. القطط صدّقت فكرة العشب والسور والعشاق واسم الشارع، وراحت تجول بخفةٍ بين أقدامهم وتلعقُ ذيلها مستلقيةً تحت السيارات.. عجوز تسندها عصا سوداء، رمت بقطعة خبز إلى القطط وتابعت سيرها.

أمدُّ يدي في الهواء، ألتقط عيني القديمة في صورة لوجهي، قرب البحر، أسير بها وسط الشارع، أريد ان أقبّل العصافير، تضحك بائعة الخضار، وهي تربط باقة البقدونس بغصن أخضر وتمدها إلي: “يا ريت لون هالخضرة أحمر، كانت الغلة غير شكل اليوم!

**لو أتيتَ إلى بيتي

اجلبْ لي معكَ

مصباحًا ونافذةً

كي أرى من خلالهما

ازدحام الزقاق السعيد.

في الثانوية، عهد مادة التربية العسكرية “الفتوة” والزيّ العسكريّ والشبيبة المستعدة لبناء المجتمع الاشتراكي الموحد، والمراوحة في المكان والزمان والروح، وفي عيد الحب، كان يجري لنا نحن الشبيبة المترفة بالأهداف، تفتيشٌ نظاميّ دقيقٌ، على الحقائب، قبل الصف وعند خروجنا من المدرسة؛ إذ ينقسم الطلاب إلى رتلين، ويقف أمام كل رتل مدرسو المادة العسكريّة في مدرستي التي كانت تطلُّ على البحر، ويبدأ القادة في تفتيش حقائبنا التي غرقت فيما بعد في البحر، فالقرنفل والجوري الحمراء التي نبتت قرب البحر، كانت من أفتك أنواع الإرهاب التي تشكك في الانتماء.

**جديلتي تحترق تحت لمساتكَ

خطوط جسدكَ أصبحت فستاني.

أغمض عيني الآن لأرى بزةً عسكرية تضع على كتفيها ورودًا وتطير فوق الساحل.

كم يشبه باب الحديقة الصدئ باب مدرستي، في ذاك اليوم الذي تأخرت فيه عن الصف. كان المطر يهطل بقوة ويبلل حقيبتي وثيابي لتبدو خطواتي ثقيلةً، دخلتُ خلسةً من باب المعلمين والإداريين، مررت بحذر قرب غرفة المدير، كانت أيضًا “غرفة تخص المرء وحده”، الورود الحمراء والأكياس الملونة غطت الغرفة، وتوزع قسم منها فوق الطاولة والأرائك الجلدية السوداء، والمدير يدير ظهره إلى الممر ويقف مذهولًا بينها، بدا لي كأنه نجمٌ سينمائيٌّ، فقد صودر عيد الحب غير “المجمرك” قانونيًّا، المخالف للعادات ودستور الجمهورية، كأن القلوب مرت بمعبر حدوديّ، والحب مجموعة مهربين، والمدرسة جمارك مسلحين.

قُبض على دفتر صديقتي سناء، وسُجن في ذاك اليوم، بتهمة غلافه الأحمر.

غرفة المدير الخالدة، غدت كوخًا على البحر، ومن نافذته يتدلى دبٌّ أحمر.

**ليتني كنت كأوراق الخريف

ترى رقصي في قلب حديقة بيتكَ

وجنوني يتصاعد.

يصمت المقهى وسط همس الزبائن والفراغ، الدويّ الذي سمعوه للتوّ، هل كان صوت مدفعية أم صاروخ أم قذيفة!؟

أفكر في سبب صغير كي نحتفل، ونتأكد أننا على قيد الحياة، نخاف السعادة والفرح، فيما يحيك الخوف والأسئلة وجوهنا.

نخجل من نيّتنا ورغباتنا، وإن مرّت لحظات فرح قليلةٍ نُلقي هذه المسؤولية على كتف المناسبات، لنبالغ في الفرح وكأننا لم نذق طعم السعادة يومًا.

يسألني أحدٌ أن ألتقط له صورةً مع صديقته، وفي الخلفية يتثاءب المشهد.

**في الحزن هناك صوتٌ يقول لي:

أحبُّ يديكَ.

من رتب خطواتي؟ ليس هذا عبثًا أو فوضى، الحدس يكتب قصيدة عني، يغمر شجرته بجسدي وتفاصيلي ويرمي سيرتي في الهواء، عندما ذهبتْ مراهقتي في عيد الحب إلى المكتبة قرب مدرستي، لتشتري بطاقةً عليها ظهر امرأة عار، ووجهها صوب البحر حيث ينام كلب أسود.

**أعرف ملاكًا صغيرًا وحزينًا

يسكن في عمق المحيطات

ويعزف قلبه في ناي خشبيّ

ببطء.. ببطء

ملاكٌ صغير في الليل يموت من قبلةٍ

وفي الفجر سيولد من قبلة أخرى.

في ظهيرة عيد الحبّ، في محل الإسكافي المزدحم طلبتُ حذائي الذي نسيته لأسبوع، بين أكياس الأحذية التي تنتظر أصحابها كحذائي، فشل صاحب المحل في العثور عليه، لونه أسود قلتُ، فردّ ضاحكًا: الأكياس والأحذية كلها سوداء!

فتحنا كومة الأكياس باحثين عن حذائي، أحدهم سأل الشاب وراء آلة الخياطة: هل تخيطون حقائب المدرسة أيضًا؟

هزّ الشاب رأسه، فيما تابعت بحثي في الأكياس المترامية الجاهزة، بانتظار أصحابها، بعد نصف ساعة أصابني اليأس من أن يصبح حذائي مفقودًا، أو مأخوذًا بالخطأ، فتحتُ كيسًا بلا اكتراث، رأيت قلبًا أحمر من الفرو الناعم، عليه عقد من الورد كُتِب عليه “love”، ربما يحمل ذكرى في قلب أحدهم، أو لربما اشتراه مستعمَلًا وأراد إصلاحه ليهديه إلى حبيبته من جديد، وربما كان فقيرًا ووحيدًا أكثر من الحرب، وأحبّ أن يحتفل كالآخرين.

نظرتُ إلى الشاب وراء الماكينة وبدهشةٍ سألته: هل تصلحون القلوب الحمراء؟!


سوزان علي


المصدر
جيرون