تركيا واستثمار موقعها الجغرافي



إذا كانت تركيا قد حصلت على حصّة جغرافية في الشمال الغربي من سورية عبر البوابة الروسية؛ فإن حل الأزمة الكردية بالنسبة إليها لا يتأتى إلا من البوابة الأميركية.

لقد رضخت موسكو لمطالب أنقرة، بسبب حاجة الأولى إلى الثانية، في ترتيب المشهد العسكري في حلب وإدلب، وترتيب المشهد السياسي، فانطلقت على إثر ذلك معركة “درع الفرات”، ثم رضخت موسكو إلى مطالب أنقرة مرة ثانية لمواجهة المخططات الأميركية، فانطلقت معركة عفرين، ثم أعادت إحياء تفاهمات أستانا في ما يتعلق بإدلب، فأوقفت المعارك شرقي سكة الحجاز، وبدأت تركيا بنشر نقاط المراقبة العسكرية.

اليوم ترضخ واشنطن لأنقرة، ليس على مستوى النأي بالنفس عن معركة عفرين فحسب، بل على مستوى أبعد من ذلك: (منبج)، ونتائج زيارة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون إلى تركيا تؤكد أن الولايات المتحدة بحاجة إلى التفاهم مع تركيا، بخصوص “وحدات الحماية الكردية”، وبخصوص التسوية السياسية في سورية.

في الحالتين، فرضت الجغرافيا السياسية منطقها وحضورها، وبات اللاعبان الكبيران: روسيا وأميركا، بحاجة إلى تركيا، كل لأهدافه الخاصة.

بالنسبة إلى روسيا، فقد أصبحت أسيرة القوتين الإقليميتين: تركيا وإيران، لمواجهة الاستراتيجية الأميركية الجديدة التي عبرت عنها عمليًا بست مناسبات مهمة:

إعلان الولايات المتحدة أن قواتها العسكرية ستبقى في شرقي الفرات وبعض المناطق الأخرى، حتى الانتهاء من محاربة الإرهاب وإنجاز التسوية السياسية في سورية. إعلان الولايات المتحدة نيتها تشكيل قوات حرس حدود بقوام 30 ألف مقاتل، في خطوة واضحة لتسييج الجغرافيا العسكرية، وجعلها عصية على الاختراق. تقديم وزير الخارجية الأميركي ورقة خماسية لدي ميستورا، تُشكّل تطورًا بالغ الأهمية في رؤية واشنطن للحل السياسي، بما يقطع ويتجاوز الجهود السياسية الروسية، ثم استتبعت هذه الخطوة بطلب ضمني للمعارضة بعدم الذهاب إلى “مؤتمر الحوار الوطني” في سوتشي. مهاجمة 13 طائرة موجّهة من نوع “دونر” قاعدتي حميميم وطرطوس العسكريتين التابعتين لروسيا. إسقاط طائرة روسية من نوع (سوخوي- 25) في سماء إدلب. الضربة الأميركية لميليشيات عسكرية تابعة لإيران في دير الزور.

تُشكّل جغرافيا النفوذ الأميركي في سورية تهديدًا لمصالح روسيا الحيوية، بحيث تحد بل تمنعها من استثمار انتصاراتها العسكرية، بطريقة تجعل هذه الانتصارات عبئًا عليها لا نجاحًا لها، كما أن الجغرافيا الأميركية هذه تمنع روسيا من إعادة تأهيل النظام اقتصاديًا، وهو أحد الأهداف الكبرى التي يسعى وراءها قادة الكرملين.

في الحقيقة، كما بيّنت التطورات الأخيرة، أن روسيا لا تمتلك قدرة فعلية أو استراتيجية واضحة لاحتواء الولايات المتحدة، ولذلك هي مضطرة إلى التناغم مع المطالب الإقليمية لشركائها. وستجد روسيا نفسها مضطرة، مع كل مواجهة أميركية، إلى تقديم تنازلات للطرفين الإقليميين الرئيسيين: تركيا وإيران، ولا يخرج عن ذلك السماح بإقامة نقاط مراقبة عسكرية في ريف حلب الشمالي على حدود عفرين.

كما أن هجوم ميليشيا “زينبيون” و”فاطميون” التابعين لإيران، على قوات حليفة للولايات المتحدة شرقي دير الزور يخضع لهذه الاعتبارات، فإما أن الروس استجابوا للمطلب الإيراني بتوجيه ضربة لحلفاء واشنطن ومحاولة استعادة بعض النقاط، وإما أن طهران ودمشق تحركتا بمفردهما من دون علم الروس. وفي كلتا الحالتين، يعدّ ذلك استشعارًا منهما بضعف روسي بدا واضحًا مؤخرًا، وحاجة الأخيرة إلى حلفائها الإقليميين.

لقد كشفت الأحداث، خلال الأشهر الماضية، وصول القدرة الروسية إلى أقصى مداها، وربما هذا ما يفسر حجم القصف الروسي على إدلب.

أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإن مرحلة تثبيت مناطق النفوذ، وما تقتضيها من تثبيت وتعزيز حليفها المحلي (قوات سورية الديمقراطية)، تختلف تمامًا عن مرحلة استثمار مناطق النفوذ هذه على المستوى الاستراتيجي.

إن عملية الاستثمار الاستراتيجي تتطلب تفاهمات تتجاوز الحلفاء المحليين، إلى قوى إقليمية لا يوجد منها سوى تركيا، وهذا ما يفسر تأخر واشنطن في تقديم خطاب سياسي تجاه أنقرة مغاير تمامًا عن الخطابات السابقة.

أن يقول تيلرسون إن الطرفين لن يعملا بشكل منفرد وسيعملان معًا، وأن قضية منبج ستحل بالتفاهم المشترك، مؤشر واضح على نية الإدارة الأميركية الانفتاح على الأتراك.

هذه المعطيات تُعيد إلى تركيا مكانتها الجيوسياسية، لكن هذه المعطيات بالمقابل قد تُربك تركيا، وتضعها في منزلة بين المنزلتين، فلا هي قادرة على الوفاء بمتطلبات الشراكة مع روسيا، ولا هي قادرة على إعطاء الأميركيين ما يريدون؛ ذلك أن التموضع الوسطي في ذروة الحروب الباردة، بين روسيا والولايات المتحدة في سورية، لا يؤدي إلى تحقيق مكاسب كبرى لها.


حسين عبد العزيز


المصدر
جيرون