داء النجومية



إذا كانت الأمراض الجسدية تنهك الجسم وتفتك به؛ فثمة أمراض أخرى تنهك الروح وترمي بصاحبها في صحراء قاحلة، خالية من الدفء الإنساني. الفارق بين الأمراض التي تنهك الجسم والأخرى التي تنهك الروح؛ أن الأولى يشعر بها الإنسان، ويتألم منها، وقد تسبب له العجز الجسدي حينما تستفحل. على حين أن الثانية لا يشعر بها صاحبها، ولا يعاني منها، وإنما يراها الآخرون من حوله، ويتأذّون منها. وعلى العكس، فإن صاحب هذه العاهة يشعر بالسعادة، كلما استفحل به هذا الداء وتمكّن منه.

المثقفون بشكل عام، والأدباء والفنانون بخاصة، لا يخرجون عن هذه القاعدة، بل تكاد تتملّك الكثيرين منهم، دون غيرهم من بني البشر؛ إذ ابتلي الكثيرون بهذا الداء الوبيل، حتى ليرى الواحد منهم أن نجمه قد أخذ يتلألأ في السماء، فأخمل كلّ النجوم من حوله، وانفرد وحده في إضاءة هذا الكون، قائلًا للشمس غيبي، فأنا النجم الكفيل بأداء مهمتك على أكمل وجه، في ديمومة الحياة على هذا الكوكب! ومن هنا، فقد تعارف الناس على هذا الداء مطلقين عليه داء النجومية. فما إن يكتب أحد هؤلاء رواية مفككة، أو ينشر ديوانًا لا يمت إلى الشعر بصلة، أو يطلق ألبومًا فيه من الغثاثة ما لا تجده في سوق الخضار من أصوات، أو يخرج مسرحية أو مسلسلًا فاشلًا؛ أقول ما إن ينجز أحدهم إحدى هذه المهام السابقة، حتى يجد نفسه قد وصل إلى “قمة المجد”.

وليت الأمر يقف عند هؤلاء المبتدئين، فبعض من قطع شوطًا في رحلة الأدب أو الفن، نراهم يزدادون تيهًا وصلفًا، وتبدأ الأنا تتضخم لديهم حتى تطغى على من حولهم من الكائنات؛ فإذا حادثتهم تكلموا من علٍ، وإذا جالستهم رأوا إليك من فوق، وإذا رافقتهم ألغوك ولم يشعروا بوجودك، وإذا استفتيتهم استصغروا أمرك وحطوا من شأنك، وإذا آكلتهم أكلوك!! يرون ما أنجزوه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وما أنجزه غيرهم لا قيمة له، ولا يساوي بارة الفرد.

هي دعوة حارة كي يعود الأديب والفنان إلى إنسانيته، في وقت اندحرت فيه الإنسانية أمام النجومية التي أصبحت همًّا للكثير من الأدباء والفنانين، بل هي الهمّ الأوّل والأخير قبل الأدب، وقبل الفن، وقبل الفكر، وقبل الإبداع.

هي دعوة، كي يتمتع الأديب والفنان بقدر كبير من التواضع، في زمنٍ نبت فيه للكثير من الأدباء والفنانين ذيول من ريش الطواويس، ومضوا يختالون كأنهم أمراء على أمير المؤمنين، يسيرون على الأرض كبرًا، وينظرون إلى الناس شَزرًا، ويطؤون الأديم بكل ما أوتوا من صلف وكبرياء، لكأن الله لم يخلق غيرهم في الكون، ولكأن هذه الأرض لم تكن يومًا من بقايا أجسادهم وأجساد أجدادهم من قبلهم.

هي دعوة، كي يختزن الأديب والفنان قدرًا لا بأس به من الود يمنحه للآخرين، في وقت خبت فيه جذوة الود في صدور فريق من طواويس الأدب والفن، فصار شغلهم الشاغل نتف الريش، وجز الذقون، وتمزيق الأوصال، وتقطيع الأطراف من خلاف، بعيدًا عن أخلاق الأدب والفن والإبداع.

هي دعوة، كي يمتلك الأديب والفنان قلبًا نظيفًا بنظافة ثوبه الذي يرفل فيه، لا يلطخه الحقد، ولا تمتدّ إليه أظفار الضغينة، في عصرٍ أحيا فيه بعض الأدباء والفنانين عصر داحس والغبراء، وأخذت تتلبسنا الحيرة أين نقف، ومع أي فريق نميل!!

هي دعوة، كي يأخذ الأدباء والفنانون الكبار محاولات الناشئين بالرفق واللين. دون أن يكون هناك تحبيط ولا توريط. وأن يرأفوا بالمواهب الواعدة التي تفد إليهم يومًا بعد يوم، حاملة من الأمل والحلم قناطير مقنطرة، دون أن تنتابهم رعشة الكبر، ونفشة الديك الرومي، ودون أن تتحرك فيهم حمية الصقور؛ فيستلّون سيوفهم من أغمدتها، ومداهم من بيوتها، وألسنتهم من لغاليغها، ويبدؤون السلخ، لأنهم لا يريدون هذا الأديب الناشئ إلا أن يكون على مقاس المتنبي أو ت. أس. أليوت، ولا يقارنون هذا الفنان الصاعد، إلا بمستوى أم كلثوم في الغناء أو فيلليني في الإخراج.

فليتذكر هؤلاء الأدباء والفنانون التجربة الأولى التي عاشوها، تجربة الولادة الأولى والمخاض البكر، تجربة شبابهم الغض يوم كانوا يحملون نبض عروقهم، وعصارة قلوبهم بلهفة العصافير، ليقرأ الناس ما كتبوا أو ليستمعوا ما لحنوا أو غنوا. فكم لوحوا بتلك الصحيفة التي نشرت أعمالهم الأولى، وكم بذلوها لمن يقرأ ولمن لا يقرأ. وكم أسمعوا إبداعاتهم الفنية لمن له أذن ولمن لا أذن له.

ألا لا قرّت أعين الطواويس.


فوزات رزق


المصدر
جيرون