في اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية… ما زالت حلمًا في سورية



أعلنت الأمم المتحدة عن الاحتفال سنويًا بيوم 20 شباط/ فبراير، بوصفه (اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية) في كافة أنحاء العالم، اعتبارًا من الدورة الثالثة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 أيلول/ سبتمبر 2008، وبناء على هذا الإعلان، تحضر أهمية العدالة الاجتماعية على الصعيد العالمي، من خلال تأكيد الأمم المتحدة على أن العدالة الاجتماعية أحد الأهداف الرئيسية التي تسعى إلى تحقيقها، والمبادئ الأساسية التي تقدرها وتعمل على تحقيقها، ولذلك تردد مفهوم العدالة الاجتماعية كثيرًا في الأدبيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العالمية، والسورية إلى حد ما.

يتضمن مفهوم العدالة الاجتماعية أن النظام الاجتماعي يعمل على تحقيق المساواة بين جميع أفراد المجتمع، في فرص العمل، وتوزيع الثروات، والامتيازات، والحقوق السياسيّة، وفرص التعليم، والرعاية الصحيّة وغير ذلك، بغضّ النظر عن الجنس أو القومية أو الديانة أو المستوى الاقتصادي. أي أن مفهوم العدالة الاجتماعية ليس مفهومًا وحيد البعد، بل هو متعدد الأبعاد، يستلزم البحث عنه نظرة شمولية للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لأي مجتمع، وتشجيع الطاقات، إتاحة الفرص، خلق الإمكانات، تأهيل القدرات البشرية، توسيع مجال الحريات العامة، وتعزيز الديمقراطية.

أصبح لمفهوم العدالة الاجتماعية في سورية وقع خاص مع انطلاق الثورة 2011، حيث لم يعد مفهومًا مجردًا أو كلمة تتداولها وسائل أعلام النظام السوري، بهدف التشويه لمضمونها الحقيقي، بل أصبح له معنى، دفع من أجله الكثير من السوريين أرواحهم عن طيب خاطر، لتجسيده على أرض الواقع المعاش في سورية، في شعارات المتظاهرين من الشباب السوري (حرية، كرامة، مساواة، عدالة، سورية لنا وما هي لبيت الأسد) وهي تعبير حسي وملموس عن رفضهم لممارسات النظام: “الفساد، النهب والسرقة، القمع والاعتقالات، الظلم، غياب الحرية والكرامة”. أي كانت مزيجًا من المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية للسوريين.

لم تعد العدالة الاجتماعية في الأشهر الأولى من الثورة السورية حلمًا، بل أصبحت واقعًا، كانت قاب قوسين أو أدنى من التحقق؛ لولا التدخل العسكري الغاشم من قبل النظام وحلفائه (روسيا، إيران)، وحرف الثورة إلى حرب حقيقية من قبل النظام اتجاه الشعب السوري، لذلك أصبحت هذه العدالة الاجتماعية المنشودة من قبل السوريين حلمًا، انتهى مع أول برميل أسقطته طائرات النظام وحلفائه، وتحول حلم العدالة الاجتماعية إلى ما هو أهم وأكثر إلحاحًا وهو بقاء المواطن السوري على قيد الحياة، وخاصة في المناطق المحاصرة، إنه الأمن الإنساني أو البشري.

لوحظ على أثر الثورة السورية 2011 انسحاب كافة المؤسسات الخدمية التابعة لحكومة النظام السوري من المناطق الثائرة ضده، كعقوبات تحت مسمى مناطق حاضنة للمعارضين المتظاهرين، الذين أطلق عليهم النظام السوري “الإرهابيين”، وتلا ذلك قصف ممنهج لهذه المناطق بكافة أنواع الأسلحة حتى المحرمة دوليًا كالكيمياوي والغازات السامة، وتدمير البنية التحتية للخدمات الرئيسة مثل المشافي، المدارس، مؤسسات الكهرباء والاتصالات والمياه… إلخ.

تعددت وتكاثرت مصادر تهديد الأمن الإنساني في سورية، حيث تداخل الأمن الشخصي مع الأمن المجتمعي، وأصبحت ظاهرة غياب الأمن الإنساني أكثر تعقيدًا، استنادًا إلى مفهوم العدالة الاجتماعية، علمًا أن هذا المفهوم ظهر قبل أن يتبلور مفهوم الأمن الإنساني بعقود من الزمن، لكنهما متداخلان، فالعدالة الاجتماعية بإجراءاتها وأهدافها تستهدف توفر حالة من الأمن الاقتصادي، الاجتماعي، التعليمي، السياسي، البيئي، الصحي، النفسي، والأسري… إلخ. أي تستهدف بالدرجة الأولى تحقيق الأمن الإنساني، غير أن تعقيد حالة غياب الأمن الإنساني في سورية يمكن تحديدها في القطاعات الحيوية الآتية:

غياب الأمن الوظيفي المتمثل بعدم استقرار الدخل وعدم الاستقرار المالي، وما نتج عنه من الفقر والجوع والحاجة الماسة للسلع الغذائية الأساسية، أي انعدام الأمن الغذائي المطلق. غياب الأمن الصحي، وبخاصة مع انتشار الأوبئة الفتاكة، وغياب المؤسسات الصحية نتيجة تدميرها من قبل طائرات النظام وحلفائه. غياب الأمن البيئي بانتشار (التلوث، الألغام، قطع المياه والأنهار عن الأراضي الزراعية في المناطق المحاصرة… إلخ)، وتغيير معالم البيئة الطبيعية. غياب الأمن التعليمي والثقافي، من خلال تدمير معظم المدارس السورية، وتهجير الكوادر البشرية المتعلمة. غياب الأمن الشخصي، بانتشار الجريمة المنظمة من الاستعباد والعنف الجنسي (الاتجار بالبشر) والمخدرات ووسائل الاحتيال المبتكرة من الغش والتزوير. غياب الأمن السياسي والمجتمعي، من خلال سهولة انتقال الأسلحة ووسائل الدّمار والعنف والتطرف والقتل الجماعي الذي يصل إلى حد الإبادة، إضافة إلى الاعتقالات وتهجير الملايين قسريًا.

باختصار، من أجل التطلع إلى تحقيق الأمن الإنساني في سورية، لا بد من وقف حرب النظام السوري وحلفائه فورًا على المدن والبلدات المحاصرة وفك الحصار المفروض عليها، وإطلاق سراح المعتقلين السوريين كافة، والعمل على عودة السوريين المهجرين قسرًا. إضافة إلى توفير أسباب العيش الكريم للمواطن السوري وتلبية الاحتياجات الأساسية، ورفع مستوى الخدمات، مع العمل على تحسين ظروف المعيشة، وخلق فرص عمل لمن هم في سن في العمل، مع الأخذ بعين الاعتبار تطوير القدرات والمهارات، من خلال برامج التعليم والتأهيل والتدريب، وتوفير الأمن الشخصي للمواطنين، والعمل على زيادة قدرة مؤسسات التوجيه الاجتماعي النفسي لبث الروح المعنوية، والعمل على تشجيع إنشاء مؤسسات المجتمع المدني لتمارس دورها في تعزيز فكرة العمل التطوعي، لتكون هذه المؤسسات قادرة على النهوض بواجبها في شتى المجالات، والعمل على حماية البيئة من الأخطار التي تهددها كالتلوث، وبخاصة في التجمعات السكنية القريبة من العمليات العسكرية التي تنبعث منها الغازات السامة التي تسهم في تلوث الهواء، والأضرار بعناصر البيئة الأخرى من نبات، تربة، حيوانات، إضافة إلى مكافحة التلوث المائي الذي يضر بالحياة المائية والثروات الزراعية التي تشكل مصدرًا من مصادر الدخل الرئيسية للمواطن السوري.

أخيرًا، إن تحقيق العدالة الاجتماعية في سورية ليس مستحيلًا، بل هو ممكن، عندما تتضافر الجهود الدولية بتحويل المتورطين بجرائم الحرب في سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية؛ للنظر في الجرائم المرتكبة بحق المدنيين السوريين، ومحاكمتهم على أفعالهم الإجرامية، وأيضًا عندما تتضافر جهود السوريين كافة في العمل على بناء مجتمع تعايشي ديمقراطي قادر على توفير الاحتياجات الأساسية من الأمن الإنساني للسوريين، باتجاه ترسيخ العدالة الاجتماعية على الصعد كافة في المستقبل.


طلال المصطفى


المصدر
جيرون