العنصري لا يطلق الأحكام
21 فبراير، 2018
“إذا كان كل ما تملكه هو مطرقة؛ فكل شيء حولك سيبدو كمسامير”، هو تعبير عن قانون الأداة الذي نظّر له عالم النفس الأميركي إبراهام ماسلو في ستينيات القرن الماضي؛ وتعني ببساطة أنه عندما تسيطر منهجية تفكير على عقل إنسان أو جماعة؛ فلا يمكنها رؤية العالم سوى من خلالها.
يمكن الاستنتاج أيضًا، من هذه النظرية، أن المشكلة تتفاقم يوم يكون فرد ضمن جماعة تعرضت لمطارق الظلم التاريخي، وإذا به يومًا يحمل مطرقته الخاصة ليطرق بظلمها شعوبًا كاملة.
أتفهّم ردّات أفعال بعض عامة الناس على كل ما جرى من مآس في سورية، وأتفهّم أحيانًا كلمات بعضهم الغاضبة في التهجم على طائفة أو قومية أو مدينة أو جماعة. لكن من المستحيل تفهم أن نطرح رأيًا عنصريًا يحض على التمييز والكراهية، عبر الصحافة المسؤولة عن توجيه الرأي العام.
من حق الصحافي والمحلل طبعًا نقد السياسات والسياسيين وكل شيء حوله، بشرط واحد هو التزام الحرفية وأخلاق المهنة. فمن حق “صناع الرأي العام” رفض الهجوم على عفرين، وانتقاد السياسة التركية ورئيسها وقادات المعارك، ومن حق آخرين الجدل معهم والنقاش. لكن ليس من حق أحد في منصات الإعلام اتهام جماعات إنسانية كاملة.
لا أدري لماذا بدا لي صادمًا أن يعبّر صحافي عن كرهه لرئيس دولة عبر امتهانه كرامة شعب كامل، رغم أنه “الصحافي” ينتمي إليه، “على الأقل يحمل جنسيته”. ولا أدري لماذا بدا لي أكثر غرابة أن يحاول الصحافي ذاته إظهار نفسه مدافعًا عن حقوق قوميةٍ ما، عبر انتقاص قومية أخرى.
في مقال الصحافي رؤوف بكر المنشور في صحيفة (الحياة) بتاريخ 14 شباط/ فبراير، والذي تصل عدد كلماته إلى 370 كلمة، وردَ تعبير العرب السنّة 5 مرات، ويبدو أن بكر استساغ شتم من سماهم “العرب السنة” من السوريين، فوصفهم بمرضى “المسنثروبيا”، وشرح للقارئ مشكورًا معنى المرض، ويمكن اختصاره بكلمة واحدة “الحاقدون”.
لا بدّ بداية من تشجيع استعانة كتابنا بعلم النفس للوصول لتحليل علمي موضوعي لبعض مشكلاتنا، لكن يوم يأخذ أحدهم عنوانًا ويطبقه كيفما شاء الهوى، فهذا يكون مثل من يعتقد أن حبة الالتهاب “الحمراء والسوداء أم الخمسمية” تشفي من كل الأمراض.
وبعد “الحقيقة العلمية” التي قدّمها رؤوف بكر، بأن أولئك العرب السنّة هم ليسوا أكثر من حاقدين، تابع ممارسة إطلاق الأحكام العامة المطلقة: “فمجتمعاتهم -العرب السنّة- تفتت وتطرفت، وتحول أهلها لمرتزقة”. وتابع تشخيص “المسنثروبيا” مقررًا أن (الرئيس التركي تحكم بهم بما يشبه تحكمنا بجهاز التلفزيون، فكبس الزر وأمرهم بالحرب ضد الأكراد في عفرين)، وبالطبع لا يمكن أن ينسى بكر استخدام جثة بارين كوباني “مكسر العصا”، مستدرًا عواطف من تألم لبشاعة ما مورس، وأنا أقرأ كلامه عن بارين كوباني، ثم جملته التالية (وفي شكلٍ أدق: العرب السنّة، بعد قرابة سبعة أعوام من تمردهم على النظام) خطر ببالي سؤال: هل فعلًا من يرى أن الثورة السورية هي “تمرد عرب سنة حاقدين”، يبكي لمصير الإنسانة الكردية بارين أم يغضب، لأن من قتلها “عرب سنة أردوغانيون” (حسب وصفه)، وليس برميلًا أسديًا؟
على ماذا استند الصحافي رؤوف بكر في إطلاق حكمه ضد العرب السنّة؟ حسب مقاله لا يوجد لديه سوى أنه رأى متطوعين سوريين في تركيا يلتحقون بالكتائب التي تهاجم عفرين، وباقي كلامه هو اتهامات جاهزة للعرب السنة أو لأكثريتهم، بالحقد والتفتت والكراهية.
سأجاري هذا الأسلوب التحريضي، وأرد ببضعة حقائق يتجاهلها من يروج لنظريات عنصرية. فمن الحقائق أن حوالي 20 بالمئة من الجيش التركي هم من أصول كردية، وأن حجم الاستنكار لمعركة عفرين لدى العرب السنّة السوريين جاء حجمه أكبر بمراحل من حجم الاستنكار من أكراد تركيا أنفسهم، حتى إن تركيا خلت تقريبًا من أي تظاهرة كردية ضد تلك العملية. ولعل الكاتب لم يطلع على بيان الحزب الرئيسي للأكراد في تركيا (حزب الشعوب الديمقراطية) والذي لم يتضمن أي ذكر لعملية (غصن الزيتون) وعفرين، فهل هؤلاء مريضون أيضًا المسنثروبيا التي لا تصيب سوى الجينات العربية السنية، حسب تشخيص الطبيب الصحافي؟
ثم يقرر الكاتب، عالم النفس، مآلَ حال 3 ملايين إنسان سوري، بكل بساطة وراحة ضمير، ودليله الوحيد أن منهم من رفع صور أردوغان. على ما يبدو أن قرونًا من الديكتاتورية والاستبداد لم تفارق عقول بعض صحافيينا، فلا يدركون أن الناس من حقها أن تناصر وتصوت لفلان دون فلان.
والسؤال الأهم الذي تجاهله الكاتب: مَن نقل الصراع التركي الكردي إلى سورية، هل كانوا العرب السنة أم (حزب الاتحاد الديمقراطي) نفسه حين رفع صورة أوجلان في وسط الرقة، وماذا يمكن أن نسمي رفع صور أوجلان في كل مكان وصلت إليه قوات (قسد) في سورية؟ ولا يهمني هنا المقارنة بين الشخصين، لكن يهمني تأسيس فكرة الحرية التي سالت من أجلها كل هذه الدماء والمآسي في سورية، فأي عاقل بهذا العصر يرى صور إنسان مرفوعة بكل مناسبة يجزم بأن وراءها ديكتاتورية وتعصب، أم أن الكاتب يريد أن نصدق أن كل الأكراد والعرب في الرقة أو حتى ربعهم قد قرأ صفحة في كتب أوجلان؟
لا أريد الدخول في سجالات وجدالات كثير من السوريين، حول ماذا فعلت قوات (قسد) وقوات PYD من جرائم في سورية، ولا ماذا فعلت الكتائب الأخرى الموصوفة بالعربية السنية المعارضة للطاغية. فهذا جدل عقيم لا يستقيم مع رسالة الصحافة والإعلام في بلدٍ يذبح من ثمان سنين. ولا أريد أيضًا استحضار صور تلك الشاحنات التي كانت تحمل جثث القتلى في جثث قتلى (عين دقنة) في شوارع عفرين، والذي تباهت به “وحدات حماية الشعب” الكردية.
يهمنا هنا السؤال المصيري: لماذا أيها المثقفون والمساهمون في صناعة وتوعية الرأي العام تسيرون في تيار التحريض القومي والطائفي والديني، بهذا الشكل الأعمى؟ مقال رؤوف بكري ليس الوحيد، فعديدون من مثقفي الأكراد وسياسييه رفعوا رايات المظلومية الكردية، كتبرير لعنصريتهم ضد القوميات الأخرى، ولا يوفرون سهامهم ضد كل من ينتقد شيئًا له علاقة بالحركة الكردية السياسية أو العسكرية. وعلى الطرف المقابل أيضًا عديدون من مثقفي العرب وقعوا في حرمة الإنسان السوري، فلم يتركوا شرانية إلا ألصقوها بالكرد.
السوريون المعارضون الذين خرجوا في الثورة، والذين وصفهم رؤوف بكر في مقاله بـ “المرتزقة” والمتطرفين، ينقسمون اليوم ويرون أن لكل واحد منهم الحق في أن يحمل رأيه الخاص، وأن يدافع عنه، جزء منهم ضد المعارضة السياسية وجزء آخر يدافع عنها، بعضهم حارب “جبهة النصرة” منذ تأسيسها، وبعضهم تبنى موقفها وأفكارها، كثر منهم شتم هيئة التفاوض وكثر أيضًا دافع عنها باستماتة، فضح بعضهم الفصائل الفاسدة وحاباها البعض المستفيد منها، كثيرون هاجموا عملية عفرين وكثيرون أيضًا تبنوها، وهذا هو الوضع الطبيعي لشعب عاش خمسين عامًا من الحكم الديكتاتوري، فبقي طوال تلك السنين محكومًا بشعارات وأفكار ورؤيا القائد.
الثابت أن العنصري لا يمكن أن يحاضر بالأخلاق، ولا يحق له إطلاق التوصيفات على قومية أو شعب. وإذا كان صحافي كردي قد أعطى لنفسه الحق بإهانة شعب كامل يحمل صفة “عربي سنّي”؛ فإلى أين سيصل الحقد السوري الحقيقي مع غياب العقل والنخبة المثقفة، عندما يريد السوريون نقاش صفات الحاضنة الاجتماعية للنظام، بعد سبع سنوات من كل أنواع التحريض الطائفي بين المسلمين والمسيحيين والسنة والعلويين والشيعة والدروز والإسماعيليين، واختبار كل أنواع القتل والتدمير.
لا حياةَ تنتظرنا -السوريين- إن كان اتهام شعوب كاملة وجماعات بشرية، وفق عرقها أو دينها أو طائفتها، هو وجهة نظر فقط ورأي ينشر في الإعلام؛ لأن هذا الأمر باختصار ليس أكثر من فعل هدم وأداة طيعة في أيدي صناع الحروب؟
هنادي الخطيب
[sociallocker]
جيرون