الوحشية المروضة لإنسانيتنا



يكفي أن نتذكر معًا صراخ السوريين في درعا، عن المجزرة الأولى في الثورة السورية، كي نتذكر مشاهد تقفز كل لحظة، في وسائل الإعلام، لأطفال ونساء وشيوخ قضوا تحت أنقاض منازلهم. تطورت المشاهد مع صرخات غضب عن حرب إبادة طالت كل منطقة، وعمت كل حي، ومدينة وقرية، حمل السوريون فيها يافطات، عن داريا ودوما وحلب، واللطامنة وكفرزيتا والصنمين ومزيريب، والحولة والتريمسة، لن نعدد قائمة إجرام لم يغلقها بعد سفاح السوريين. وها هي ذي اليوم الغوطة تُباد، على مرأى من العالم ومسمع، مع أنّ شقيقة روحها داريّا نالت حظها من فرجة مماثلة على وحشية وبطش مستمران، وكما كانت حلب تُحرق وقبلها إدلب، والرقة ودير الزور، ودرعا والقصير، سنبقى نتفرج على الغوطة اليوم، على سلسلة إبادةٍ لن ينجوا منها من يعتقد أن للفرجة مآثر.

مرارًا وتكرارًا، كانت مناشدات السوريين تسقط عند شاشات التلفزة التي أخبرت العالم الأصم، عن مقتل مئات الآلاف بمختلف طرق القتل، وعن جرح الملايين وتهجريهم، وعن صرخاتهم التي تعبر فضاء العالم. خَبِرنا عجز المجتمع الدولي الذي يناشده السوريون، وكذلك منظماته الدولية، ونشهد خذلان العالم كله متفرجًا وشاهد زور على أولئك الذين عذبوا وأعدموا في معتقلات الأسدية، وأولئك الذين يُحرقون كل يوم ببراميل الأسد، ويختنقون بغازاته القاتلة، لا يعنينا هنا تذبذب المواقف العربية والدولية، بقدر اكتشاف السوريين مبكرًا العلاقة التي تربط وحشية النظام ووظيفته الجيوسياسية والنفسية والاجتماعية، ومؤثراتها في الحياة اليومية للسوريين، على مدار خمسة عقود، لذلك كانت ضعضعة الوحشية تُحدث أثرًا لا يقل شأنه وتأثيره عند طرف العلاقة الأخرى التي يرتبط النظام بها.

يتردد معظم المجتمع الدولي في تسديد بصره نحو المجتمع السوري؛ خوفًا من مواجهة الحقيقة، ويخشى الجميع نشيد السوريين المرعب عن الحرية والعدالة والكرامة والمواطنة، للتخلص من الطاغية ومحاسبته، هناك في سر المتفرجين على احتراق السوريين وتدميرهم، ما ينسلّ إلى مخيلة البعض من أسئلة: كيف سيتمكن السوريون في نهاية الأمر من اجتياز هذه الوحشية والتغلب على طاغية مجرم، لتحقيق قدر من حرية ينتظرونها؟ يُكبّل السوريون بشروط قاهرة، يخضع بعضها للمتفرجين على محاولات ترويض المجتمع السوري مع وحشية النظام، متناسين أن مستقبل سورية الخالي من الأسدية يُشكل عمادًا ومنصةً لمعظم الحلول التي يبحث عنها المتفرجون والهاربون من استحقاقات حاضر ومستقبل لم تعد تنفع معه أشكال تقديم الأسد من دون وحشيته.

تعكس خارطة أحداث العامين الأخيرين من عمر الثورة السورية، رجحان كفة القوة والوحشية المفروضة من موسكو وطهران ونظام الأسد، عبر عمليات الإبادة الجماعية التي انتهجت في مناطق عديدة، تشكل اتجاهات الجغرافيا السورية الأربعة، الغوطة الشرقية تعيش فصلًا مشابهًا لما كانت عليه بقية مناطق خضعت لبطش قوة موسكو وطهران والأسد.

هنا أيضًا لا حديث عن انتهاك مبادئ القانون الدولي، أو خرق لحقوق الإنسان وشرائع المنظمات الدولية، بل حديث عن عجز دولي حتى عن وقف لإطلاق نارٍ لا يخضع لشروط وحشية الأسد وموسكو، بعد سقوط كذبة مناطق “خفض التصعيد”.

شجعت مختلف المواقف الإقليمية والدولية نظامَ بشار الأسد على المضي بجرائم الحرب والإبادة ضد السوريين. الصراخ من أجل الغوطة اليوم، وغدًا من أجل إدلب، ومن ثم “اللطم” على كل سورية، لن يفيد أحدًا، أولهم النظام المجرم الذي عمد إلى خلق حقائق جرمية ووحشية من المستحيل أن تكون طي النسيان وأن تمرّ دون حساب، كل احتمال أو تلويح بحماية الأسد من جرائم، والتذرع بكل شيء في سبيل إعادة السيطرة والأبد، لن يكون قابلًا للتحقق. ولن يكون العجز في جانب تخفيف وطأة القتل فحسب، بل سيكون أيضًا في تأمين استمرار وجود القاتل.

يستطيع المجتمع الدولي وموسكو وطهران وتل أبيب ترويض وحشية الأسد، لمصالحهم المشتركة، لكنهم لن يستطيعوا إقناع السوريين أن سورية القابلة للحياة والمستقبل، ستكون مع الطاغية قاتل أمهاتهم وأبنائهم وأخواتهم، ومُغيب أحبتهم، وأعزائهم، ومنتهك أعراضهم، لن تسفر جرائم مستمرة عن إخفاء حقائق لا يدركها الطغاة ولا المحتلون في سورية، إن ثمن تضحيات السوريين إن لم يكن بحجم إزاحة طاغية ومحاكمته؛ فلن تكون نهايات “الانتصار” إلا على نشرة تلفاز الطاغية وبيانات المحتل، لأسباب بسيطة منها: أن حكم الأسد الأب، مع كل جرائمه المضاف إليها جريمة توريث ابنه القاصر، أفضى إلى ثورة، تواجه بجرائم تضاعفت واتسعت لتعمّ كل سورية، لا سبيل للخلاص فيها ومنها، إلا بإسقاط الأسد ومحاكمته، كعربون لعقد اجتماعي وأخلاقي وإنساني جديد، يحفظ ما بقي للسوريين من إنسانية تلاحقها وحشية الأسد، دون ذلك؛ لا شيء سيتحقق يقول منطق التاريخ وبديهياته.


نزار السهلي


المصدر
جيرون