صرخة في وجه ما يحصل في الجولان



كنت في طريقي إلى مجدل شمس قبل عدة أيام، فتقصدت المرور إلى جانب مقام (سيدنا اليعفوري)، للاستمتاع وأطفالي الذين رافقوني بجو ربيعي مبكّر في الجولان، فكان أن مررت بجانب سهل المغاريق الذي نكأ بي الجراح، في ضوء ما نعيشه من انقسامٍ تخطى الحالة السياسية بين معارض وموالي، ليصل إلى إخوتنا وأهلنا من رجال الدين، وقد بات ذلك ظاهرًا في بقعاثا بشكل مريع، ولا يقل الأمر عنه في مجدل شمس، وإن لم يصل إلى مرحلة الظهور إلى العلن، لأسباب متعددة أهمها وجود خلوة واحدة ووقف واحد، في مجدل شمس لا كما في بقعاثا.

بات الصراع للأسف سافرًا، وأخذ مداه في قضية التعامل مع من حمل الجنسية الإسرائيلية، التي باتت تأخذ طابع النكاية وفرض المواقف الشخصية، وبالأخص حين يختلف التعامل معها من الأهل والإخوة نفسهم، سواء في مجدل شمس أو في بقعاثا، بحالة من التناقض الكامل، ففي حين لا يتم الإصرار على مقاطعة حملتها في مجدل شمس في مناسبات الأفراح والأتراح، يتم التنكيل بمن يسمح بحضور أحد في بقعاثا ومن الأشخاص ذاتهم، إن من رجال الدين ذاتهم، أو من المحسوبين على الموالاة، ومنهم من ارتكب هو أو أفراد أسرته أبشع الارتكابات الأخلاقية والسياسية والاجتماعية، هذا إذا استثنينا التعامل مع أهالي قرية الغجر المحسوبة طائفيًا على النظام، والتي بدأت في مرحلة كان الموقف من قضية الجنسية الإسرائيلية صلبًا، حيث لم يتم التغاضي عن هؤلاء فقط، بل كانوا يُستقبلون في المناسبات استقبال الأبطال، ووصل الأمر بالنظام السوري أن فرض أحدهم، وهو المحسوب على الاحتلال من خلال موقعه الاجتماعي في قريته، كممثل للجولان لدى النظام دون أي اعتراض على الموقف، على أقله في العلن، وفي وقت كان يُتهم أسرانا الذين قضوا زهرة حياتهم في السجون نتيجة أعمال نضالية، ولم تُخرجهم سوى أمراض السرطان ليقضوا شهداء بالعمالة للاحتلال من قبل النظام، كما تم تسويق مهربي المخدرات من القرية ذاتها بالتعاون مع “حزب الله”، على أنهم أسرى مقاومة.

جميعنا أخطأنا، باختلاف مواقعنا وادعاءاتنا، ولكن المخطئ الأساس الذي ما زال يُصرّ على الخطأ مكابرًا هو الأهل والإخوة من رجال الدين، الذين افتقدنا فيهم في المرحلة الأخيرة من كان يملك رؤية وطنية حقة، من أمثال المرحوم الشيخ سلمان طاهر أبو صالح، الذي توجه للمرحوم الشيخ أمين طريف، في مرحلة الإضراب الذي تلا قرار الضم الإسرائيلي للجولان ومحاولة فرض الجنسية الإسرائيلية على أبنائه، بالقول: “إن هناك، بيننا وبين إخوتنا دروز فلسطين، نهرًا لا يمكن قطعه في السياسة”، والذي رفض من جانب آخر استخدام دعم أشبه بالرشوة من قبل النظام السوري، لاستخدام (مقر الشام) في مجدل شمس كمخفر أمني لصالح النظام. بينما يقوم البعض الآن -للأسف- بمد يده باتجاه النظام المجرم، ويد أخرى باتجاه الاحتلال وبشكل خطير، حيث يتم إلحاقنا بالمجلس الديني الدرزي في “إسرائيل”، لا بل توضع صور رموزه في مقاماتنا الدينية، بعد أن بات الأمر ضرورة لقبض أموال الدعم، وفي هذا أذكر مثلًا روسيًا قديمًا يقول: “لا توجد جبنة صفراء مجانية سوى في مصايد الفئران”.

كيف لمن يقبل بهذا الخرق الخطير أن يتكلم عن إعادة إحياء مواقف مقاطعة باتت أشبه بالتنكيل، حسب المزاج للبعض بما يمكن أن تتركه من أحقاد؟!

وبالعودة إلى مسألة سهل المغاريق، فهي قد أعادت الذكرى المؤلمة لتحالف بين رجال دين معروفين بالاسم وأتباع النظام لهدم كل محاولة بناء؛ بدءًا من رابطة الخريجين الجامعيين في الجولان، وهي أول مؤسسة تهتم بالشأن العام في الجولان، إلى مؤسسة (قاسيون) في بقعاثا، إلى ما أقيم من نصب وتماثيل لتوثيق الإسهامات النضالية لأهالي الجولان، في التاريخ السوري ماضيًا وحاضرًا، وجعلها في وجدان الأجيال، والتي حاول هؤلاء، بمساعدة النظام السوري واستجابة لتحريضه، منعَ إقامتها، هذه التماثيل التي يرقص حولها هؤلاء على دماء أبناء شعبهم بأعلامهم الطائفية المستجدة، وعلم ملوث بصورة القاتل، إلى الأعمال التطوعية من شق طرقات ودورات وروضات أطفال، إلى معارض الكتاب السنوية، إلى النشاطات الرياضية المحلية التي تمّ الإجهاز عليها لتخلو الساحة للدوري الإسرائيلي، إلى عشرين مخيمًا صيفيًا لم يرفع فيها سوى (علم النظام) السوري، والذي كان تظاهرة وطنية سنوية عامة لقرانا الجولانية، استمرت على مدار عشرين عامًا. بدأ بإقامته في سهل المغاريق بمواجهة مخيمات الاحتلال، حيث تم تشكيل حلف من رجال الدين ومن المحسوبين على النظام للقضاء عليه، وفي هذا لن أنسى الموقف المشرف للمرحوم الشيخ أبو صالح أحمد شمس من بقعاثا الذي كان لنا عونًا، لاستعادة قفل سياج الساحة من الهيئة الدينية في مجدل شمس التي وصل الغلو ببعض أعضائها إلى الهجوم على المخيم ليلًا وحرق بعض الخيام فيه.

استذكر أيضًا اضطرارنا، بعد أن قام وقف مجدل شمس ببيع ساحة المغاريق للخلاص نهائيًا من ظاهرة المخيم، إلى إقامة مخيمٍ -كان لي شرف المسؤولية الإدارية عنه- مكان مزبلة قمنا بتنظيفها في حرش مسعدة، لنكتشف أن أرض المخيم كانت وكرًا كبيرًا للعقارب؛ ما اضطرنا إلى رفع خيم مئات الأطفال المخيمين على منصات من الخشب وبتمويل ذاتي.

أذكر أيضًا التحريض على الجمعية العربية للتطوير والتي لا ينكر لها مدى إنجازاتها أحد، في رفع سوية الخدمة الطبية، كمًا ونوعًا، ومساهمتها في شتى المجالات الثقافية الأخرى التي كان مجتمعنا يفتقدها، ما أوصل الأمر إلى قيام رجل النظام حكمت الشهابي بإصدار قرار بتحريم الجمعية، بادعاء عمالتها، حين كان رئيسًا للأركان العامة، وتوجيه كتاب مُلزم بهذا الخصوص للجولان تحت طائلة المسؤولية، والجميع يعرف أين انتهى متقاعدًا بما سرقه من قوت الشعب السوري في “وكر الإمبريالية”، كما كان هو ونظامه يسميها، بينما بقي ناشطو الجمعية في نضالهم في الجولان في خدمة مجتمعهم وقضاياه.

ما هكذا تُبنى المواقف، أيها الإخوة، وبالأخص في بقعاثا التي نُحب، ويقتضي بناء الموقف على صدق مع الآخر ومع الذات، وأول طريق الصدق يكمن في أن نظامًا، أوصلنا وأوصل شعبنا إلى درجة قيام الناس لدينا بتوفير مال من الضمان الاجتماعي الذي يوفره الاحتلال للمعاقين والعجزة لإرساله لأهلنا هناك ليقيهم شر العوز، لا يمكن أن يكون وطنيًا، ومن جانب آخر، إذا كنّا صادقين في محبة أبناء جلدتنا هناك؛ فأولى بنا محبة بعضنا هنا وعدم التقاتل على صيغة إرسال أموال الإغاثة التي تقتضي خيريتها الابتعاد عن الظهور والتباهي.

وأخيرًا، أقول إن ما حققته أهلنا من بني معروف المعروفين بنضالاتهم في الجولان المحتل، بعد حرب أشبه بتسليم الجولان والتخلي عن أي إسناد إثر ذلك؛ ما جعل الجولان وأهله في وجدان كل السوريين، بغض النظر عن توجهاتهم وانتماءاتهم الدينية والإثنية والسياسية، الأمر الذي لمسه من كان يزور الوطن من الوفود الدينية في زيارتها السنوية من خلال الاستقبالات المهيبة لأي بقعة وصلوا إليها بالأهازيج والسجاد الأحمر ونحر الذبائح، يتم تشويهه -للأسف- بمساهمة البعض بتحويله إلى رقصات طائفية منفرة على الدمار والأشلاء والدم؛ يتم توظيفها من النظام في جريمة إثارة النعرات. هؤلاء الأهل الذين تعرضوا لأبشع صور القتل والتدمير والتهجير على يد عصابة القتلة كانوا وما زالوا، كما غيرهم من أبناء شعبنا المنكوب، يستوجبون وقفة ضمير.


علي أبو عواد


المصدر
جيرون