عن الثورة السورية ورهاناتها



منذ البداية، لم تشتغل الأوساط النافذة في المعارضة السورية وفقًا لرهانات محسوبة ومدروسة في السياسة، وفي صراعها من أجل تحقيق أهداف شعبها، بل إنها، في أغلب الأحوال، اشتغلت بعقلية رغبوية وإرادوية وسطحية، ربما، من دون ملاحظة التعقيدات والمشكلات والتحديات، وربما التدرّجات التي تواجهها في الطريق إلى ذلك.

هكذا ذهبت تلك الأوساط نحو المراهنة على التدخل الخارجي، وعلى العسكرة، وعلى هدف إسقاط النظام، على أهميته ومشروعيته؛ ما أثر في مبناها السياسي وفي خطاباتها وطروحاتها، ونمط علاقاتها الداخلية، وارتباطاتها الخارجية، وأشكال عملها.

نتيجة كل ذلك، مثلًا، تمّت الإطاحة بأشكال الكفاح الشعبي، والتعويل على العمل المسلح وحده، علمًا أن هذا هو الجانب الذي يتفوق فيه النظام، والذي يتيح له استخدام أقصى طاقة البطش لديه، لتدفيع السوريين ثمنًا باهظًا لتمردهم عليه، بقتلهم وتدمير عمرانهم وتشريد الملايين منهم، كما حصل. وهذا هو الوضع الذي جعل الثورة تعتمد على الأطراف الخارجية، أكثر من اعتمادها على كفاح شعبها، مع معرفتنا أن للأنظمة أجندتها الخاصة، وأنها ليست جمعيات خيرية ولا منظمات حقوق إنسان. وتبعًا لذلك السياق؛ تمت الإطاحة بهدفي الحرية والديمقراطية، وبشعار: “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”، مع بروز الجماعات العسكرية التي تتغطّى بالدين، والتي طرحت رؤى مغايرة لمستقبل سورية، من دون أن يبذل “المجلس الوطني”، وبعده “الائتلاف الوطني”، أي جهد للوقوف أمام ذلك، على نحو جدي، لما له من آثار سلبية على صدقية الثورة وصورتها، وعلى إجماعات السوريين، علمًا أنها رؤى تتناقض مع الوثائق التي تم التوافق عليها، لدى تأسيس هاتين الهيئتين.

في غضون ذلك، لا يبدو أن قوى الثورة، السياسية والعسكرية، أدركت الأخطار التي باتت تحيق بها، وأولها خذلان المجتمع الدولي لقضية السوريين، ليس لجهة التدخّل العسكري، أو فرض مناطق آمنة، وإنما لجهة فتح ممرّات لإغاثة المناطق المحاصرة، وإيجاد نوع من الحظر الجوي، الذي يَحول دون قيام النظام بقصفها، وتطبيق بيان (جنيف 1) في 2012، أو قرارات مجلس الأمن الدولي ذاته، ولا سيما القرارين: (2118) في 2013، و(2254) في 2015. وقد كان واضحًا، من البداية، أن الأطراف الدولية والإقليمية والعربية الفاعلة غير معنيّة بحسم الأمر في سورية، بقدر ما هي معنية بخلق واقع من الاضطراب، يطغى على وضع الثورة فيها، بحيث لا يسمح للنظام بالاستمرار، ولا يسمح للثورة بالانتصار، لأسباب عدة، ضمنها التخوّف من تداعياتها على محيطها، والحسابات المتعلقة بـ “إسرائيل”، واعتبارها جزءًا من المجال الحيوي للنفوذ الإيراني والروسي. وبين هذا وذاك، بات اللعب الخارجي في سورية أكبر من دور أطرافها الداخلية، مع استنزاف وإنهاك النظام والثورة والشعب؛ الأمر الذي جعل مصير البلد رهنًا بتوافقات الفاعلين الخارجيين.

أيضًا، لم تبدِ قوى الثورة الحساسيةَ اللازمة لغياب مجتمع السوريين، وخروجهم من معادلات الصراع ضد النظام، لا سيما منذ تحققت غلبة البعد العسكري للثورة على بعدها السياسي، في صيف 2012، مع السيطرة على أجزاء من حلب وشمالي سورية، وأجزاء من غوطة دمشق وجنوبها؛ الأمر الذي تمخّض عن إخفاق ذريع على كل المستويات، لا سيما مع فقدان المعارضة مواقعها في حلب (أواخر 2016)، واتفاقات خفض التصعيد المنبثقة عن مسار أستانا التفاوضية. ومعلوم أنه منذ تلك الفترة (صيف 2012) قام النظام بتوجيه ضربات قاسية لمدن السوريين، دمّرت أجزاء كبيرة من عمرانهم، وأودت بحياة عشرات الألوف منهم. وقد نجم عن ذلك ترك الملايين مناطقهم وبيوتهم وتشردهم في مدن أخرى، وفي لبنان والأردن وتركيا ومصر، وشتى دول العالم، من دون مورد أو عمل. هكذا تعرّضت الثورة لضربة خطيرة بتعمّد النظام رفع كلفتها، إلى هذا الحد غير المسبوق، لكن في المقابل، فإن الثورة لم تبد إدراكًا مناسبًا لارتدادات ذلك عليها، وعلى مستقبل البلد، ولم تدرس تبعات اختفاء الشعب من معادلات الصراع، ولم تحاول انتهاج استراتيجية مغايرة للرد على هذا التحدي.

ويبقى، في إطار مراجعتنا للقصور السياسي للثورة، ملاحظة غلبة البعد العسكري على البعد السياسي فيها، وهو نقاش لا علاقة له بمشروعية العمل المسلح، أو جدواه، من عدم ذلك، بمقدار ما يتعلق بمناقشة هذه الظاهرة في حيّز التجربة والممارسة السوريتين. ومشكلة المعارضة المسلحة أنها رفعت وتائر الصراع، ليس بناء على تطور الحالة الكفاحية في مجتمعها، وأنها خاضته أيضًا، ليس بناء على إمكاناتها أو إمكانات شعبها، بقدر ما فعل هذا وذاك بناء على سياسات الآخرين، ووعود الدعم منهم، ويأتي في ذلك تبنّي خطة أخذ مناطق كاملة والسيطرة عليها، وهي فكرة لا يعرف أحد كيف تم تقريرها، أو كيف تم فرضها، لا سيما أنها في الممارسة، وبعد عام ونصف العام، لم تكسر النظام أو تضعفه، مع أنها أوجعته. وبالعكس إذ تبيّن أن هذه المنهجية في العمل العسكري سهّلت على النظام استنزاف طاقة الثورة، وبرّرت له توجيه ضربات وحشية للمناطق الحاضنة لبيئاتها الشعبية، والتي نجم عنها، كما ذكرنا، تشريد ملايين السوريين.

ثمة نتائج أخرى لغلبة البعد العسكري، منها زيادة ارتهان الثورة للداعمين الخارجيين، على تباين سياساتهم وتوظيفاتهم، وتهميش البعد الشعبي للثورة، وطمس السياسة من مشهد الصراع الجاري. وفي المحصلة، فقد تبينت هشاشة العمل العسكري، وعدم استناده إلى مرتكزات صلبة، في جوانب عدة، منها جمود الصراع بين النظام والثورة منذ تموز/ يوليو 2012، وتاليًا، عدم قدرة الفصائل العسكرية على فك الحصار عن المناطق التي تسيطر عليها، كما في داريّا والمعضمية والغوطة واليرموك في دمشق، ثم انسحابها منها، وفق اتفاقات هدن، أو بحكم التوافق على مناطق منخفضة التصعيد، أو لعدم قدرتها على الاحتفاظ بها. وطبعًا فقد كان الأخطر في كل ذلك قيامَ تنظيم (داعش)، الذي قضم كثيرًا من المناطق “المحررة”، من الرقة إلى حلب، على حساب الجماعات العسكرية الأخرى، وكذلك قيام “جبهة النصرة”، التابعة لتنظيم القاعدة، بصبغ الثورة بطابع إسلامي متعصب ومتطرف، ومقاتلتها الجيش الحر والفصائل الإسلامية الأخرى، واحتساب البعض لها على معسكر الثورة، علمًا أن هذه الجبهة لا تعترف لا بالثورة ولا بمقاصدها المتعلقة بالحرية والكرامة والديمقراطية.

على ذلك، فإن الثورة التي اشتغلت في الوضع السوري المعقد، والخريطة المفتوحة على كل التدخلات، معنيّة بمراجعة طريقها؛ إذ ثبت أن مختلف الرهانات ليست في محلها، لا طلب نوع من التدخّل الخارجي، ولا التعويل على الصراع المسلح وحده. لذا، فهذه الثورة، كي تستمر وتنتصر، معنية بمراجعة طريقها وأشكال عملها وترشيد خطاباتها، بحيث تستعيد روحها، كثورة من أجل الحرية والكرامة والمساواة والديمقراطية.


ماجد كيالي


المصدر
جيرون