أدب الحروب غاية أم وسيلة؟



خُلِقَت الحروفُ لترمّم بمرهمها السحري كلَّ الندوب العالقة بالنفس الإنسانية؛ لذا نجد أنّ مهمةَ الأدب الأولى صوغُ حالةٍ جمالية تشذّب الأرواح، وترتقي بها في مسالك الحياة.

وفي زمن الحرب نجد الأدب -غالبًا- ينهمك بالتوثيق وتوجيه مشاعر القراء، وتجييشها نحو طرف من الأطراف المتصارعة؛ مع النزوع نحو المباشرة في تناول القضايا وسرد حكايات الحرب؛ بعد أن برزت مؤخرًا (ظاهرة المواطن الصحفي) الذي يعايش الحرب وينقل تفاصيلها، لتبدو معظم الأعمال التي تتناول الحرب، وكأنها تؤدي مهمةً قتالية أو أنها محض كاميرا.

ومن مشاهدات المواطن/ الصحفي وما تبثُّه قنوات الإعلام، يتشكّل زادٌ وفيرٌ لمن يكتبون عن الحرب، إذ إن معظمهم يكون في الخارج، وما يكتبه مستمدّ من الأخبار المبثوثة هنا وهناك، على وسائل التواصل الاجتماعي.

يختلف النقاد في تقييم تلك الأعمال التي تكتب فوق صفيح الحرب الساخن، حتى إن الكتّاب أنفسهم لهم مواقف متعددة من تلك الكتابات التي تخرج من رحم الحرب؛ وتتكئ على وهج الحدث ومشروعية الثورة التي تضفي على العمل قيمته، مع ضعف ملحوظ في هذه الأعمال وافتقادها لكل ما هو تقني وتخيليّ.

وقبل أن نخوض في هذه الآراء والمواقف، علينا ألا ننسى أن أسماءً كبيرةً استخلصت رؤاها من الحرب ووحشيتها والدماء التي تسفك، وتزيدها ضرامًا، وأخرجت شخصياتها القصصية والروائية من جحيم الحرب المستعرة، والأمثلة على ذلك كثيرة في الآداب العالمية.

اليوم -مثلًا- نجد أن الأعمال التي تتحدث عن الحرب تتصدر واجهة الثقافة السورية التي تكتظّ بمفرداتها، وخصوصًا الرواية بوصفها الحاضنة الأمثل للسرد، فهي تستوعب المتغيرات الكبيرة في جمالياتها التي لا حدود لها، وتتعامل معها بحداثتها المتجددة دومًا.

معظم الأعمال التي صدرت في بداية الثورة السورية غلب عليها الاهتمام بتوثيق اللحظة التاريخية والتجربة الشخصية والصوت المرتفع؛ ما جعل البعض يرفضها، ويرى أنها من ذلك النوع من أدب الحروب الذي يسود فترة ثم تتمّ إبادته، كما حصل لأعمال كتبت عن حرب تشرين/ أكتوبر 1973 والحرب العراقية الإيرانية، لكنّ هذا الأمر جعل بعض الكتاب يقاطعون هذا النوع من الكتابة، منتظرين وضع الحرب أوزارها، لتصبح لحظة باردة ومحايدة، وحينئذ يستطيعون الكتابة عنها، بعد أن فصل بينهم وبينها مسافة مناسبة، جعلتهم قادرين على تكوين موقف منها، أو رؤية محايدة تقف على مسافة واحدة من كلّ الأطراف المتصارعة في حرب تشعلها المصالح، ويصطلي بحرها السواد الأعظم من الشعوب.

ثمة أسباب أخرى تدفع الأدباء إلى اعتزال الكتابة عن الحرب منها:

– أنهم لم يستطيعوا تحمّل الصّدمة أو مواكبتها؛ فتخلّوا عن الأمر برمّته لثّلة من الشباب تفتّحت مواهبهم إبان الثورة، وترسّخ في اعتقادهم أن طهرانية الثورة وقداستها كافية لمنحهم حيّزًا في رحاب الكتابة الثورية، لا سيّما أن الكثير من المؤسسات في الخارج تعنى بتسليط الضوء على الثورات كزادٍ من الآلام لا ينفذ، في سوقٍ أصبح قوامها الاتّجار بآلام الناس، فتوفر هذه المؤسسات فرصة التسويق والحضور لأعمال كهذه في بعض المحافل الأدبية والاجتماعية.

– أن الثورات أنتجت نوعًا مغايرًا من الأدب، وكشفت الزيف لدى البعض من المثقفين الذين سقطوا، على المستوى الثقافي؛ حين التحقوا بالطغاة وسلطتهم الفاسدة، من خلال انتمائهم إلى مؤسسات السلطة التي عملت على تدجينهم؛ ليسخر هؤلاء الثقافة والأدب والإبداع لصالح الطغاة الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء على أحلام الشعوب ومصايرها، ممّا جعل أعمالهم تلك تندرج تحت مُسمّى (الأدب التعبوي) الذي يفتقر إلى الصدقية.

– بين هؤلاء وهؤلاء فئةٌ أخرى، تقفُ في المنتصف، تجد في رواياتهم تعاطفًا مع الضحايا من دون أن نعرف من الذي قتل وحاصر وعذّب ودمّر المدن وجرّ العباد إلى أتون الحرب المضطرم؛ ما يجعلك تشعر كأن يدًا خفيّة تقتل الناس وتشردهم.

في النهاية، يمكننا القول: مهما كانت توجّهات الأدباء والنسق الذي اختار الكاتب اتّباعه في عمله؛ فسيبقى أدب الحرب ضروريًا لتوثيق تلك اللحظات المؤلمة للناس ومكابداتها، في ظلّ حربٍ تصبح ذاكرةً للأمة في المستقبل؛ إذ تشكّل معاصرة الأحداث الكبرى فرصة نادرة للأدباء، للتعبير عن موقفهم من الحرب، أو للهرب من خلال الكتابة من أثر الحرب الثقيل، على أعصابهم وعواطفهم وأفكارهم، مع يقينهم التام بأن الحرب ستزول، ويبقى ما كتب عنها وثيقة للأجيال القادمة.

*اللوحة للفنان الفلسطيني باسل المقوسي


فوز الفارس


المصدر
جيرون