ســــعد يكــن وطقوس الغوايـــة التشكيلية



ما بين يوميات الهدوء والسكينة ورحلة البحث والابتكار، في مدارات الفنون التشكيلية والحرب الظالمة التي تخوضها سورية بشعبها، وما لحق بالمثقفين والفنانين التشكيلين من انفصام شخصية لبعضهم، وابتلاءات بعضهم الآخر، في ذواتهم وممتلكاتهم وحياتهم وفنونهم. جعلت منهم ضحايا وقرابين مجانية، على مذبحة الحروب ونارها المتوقدة على أرض سورية، من خلال حروب الغزاة والمتحاربين. والفنان التشكيلي السوري سعد يكن الذي اكتوى بنارها، وحرقت جلّ أعماله في مرسمه في حلب، كاد أن يكون بذاته ضحية حملة البنادق؛ ما جعله يُغادر مدينته حلب التي أحب، ليعيش في مهجره المؤقت بمدينة بيروت. حاملًا معه أحزانه، وما تبقى لديه من أحاسيس ألم وحزن بوطن مفجوع بأبنائه الإخوة الأعداء.

يُعد سعد يَكن، حالة بديعة في الحركة التشكيلية السورية لخصوصية تجربته الفنية، وتعبيراته المنفردة والمُتفردة في عوالم التفكير البصري. يمخر عباب لوحاته بأشرعة معلقة على مساحة وعيه بالأشياء والأفكار، ومخيلته المفتوحة على عالم حافل بالحلم واليقظة، وتجليات التاريخ والأسطورة، متكئًا على موهبته المصقولة كذات باحثة منذ عدة عقود. مُبحرًا في عوالمه التشكيلية التي تفوح منها رائحة الزمن المتغير بوسائط ابتكار شخصية، قادته إلى مساحة واسعة من نجومية براقة في ميادين اللوحات التصويرية، كواحد من فرسانها المميزين. كانت وما زالت مساهماته التشكيلية تُسقط أنوارها الفنية البهية داخل أسوار الفن التشكيلي السوري. يُدهشنا في حضوره الفني وغزارة إنتاجه، وتواجده الدائم كعارض مميز في صالات العرض الرسميّة والخاصة، وأشبه بفراشة ملونة، مقبلة على العطاء، ومغمسة بربيع الأساطير، مُحمل بالحكايات التي لا تنتهي.

هو من مدينة حلب، تخرج من مركز الفنون الجميلة فيها عام 1965، أقام أكثر من أربعين معرضًا فرديًا، وهو مشارك دائم في العديد من محترفات الفن العربية والأوربية واسمًا لامعًا، في العروض التشكيلية الجماعية داخل سورية وخارجها، حائز على مجموعة من الجوائز المادية والعينية وشهادات التقدير، ومتفرغ كليًا لفنه كفنان محترف.

‏يُطل علينا ما بين فترة وأخرى بفتح أبواب سفره اللوني التشكيلي المتجدد، مُحافظًا على أسلوبيته وخصوصيته، حاملًا ولائمه التشكيلية، ومدونات بصرية مستحدثة لموسيقى حالمة باللون والفكرة والحركة، مرصوفة بأناقة شكلية فوق أقمشة لوحات حافلة بنظافة وجمالية عزفه التقني، في ملونات فرحة متوازنة مع قتامة الخلفيات، ومقدرته في رسم معالم التناقض اللوني ما بين حارة دافئة حينًا، وهادئة باردة حينًا آخر، مربوطة بحيز جمالي لتقاسيمه المنشودة عِبر مقطوعات سرد بصري، مُستعارة من قصص (ألف ليلة وليلة) المُتخيلة، وليالي حلب الصاخبة بعبق المحبة وصدى المقامات المسرحية والغنائية والقدود الحلبية، ناسجًا في لوحاته ليالي الفنان والإنسان ورؤى ذاته الفنية ومقدرته التصويرية على التوصيل، والمحمولة بالمُتخيلة والتخييل في لحظة هوى تارة، ورغبة مقصودة في تحليق بصري في جميع الأحوال. يأسر حواسنا ومداركنا بمقاماته الوصفية، يقودنا إلى مفاتن الدهشة وغواية التأمل والحوار والمساءلة، والبحث المعمق في مقولته الفنية، ورصد مساحة جموح أفكاره، وما تخفي من مضامين رمزية ومعان متصلة بالإنسان بما فيه من تناقضات.

لوحاته سابحة في أمواج تناسقها اللوني المشهود في الخلفيات المُصمتة، كمقابلة شكلية موضوعية، فيها إتقان ملحوظ وحوارية بصرية مدروسة لمساحة الرؤى والتجلي المتآلفة من تداخل الخط واللون، والحركة الإيقاعية الراقصة المتناغمة مع حركية العناصر الرئيسة، المُنفعلة بالحدث‏ والمُعبرة عن أنفاس القصة المحكية. لوحاته مشغولة بعناية فائقة ودرجة إتقان تقني تصل إلى حدود الحرفية الطلقة، ويد خبيرة ممسكة بناصية الفن، وأدوات المعالجة التقنية التي تعرف طريقها ومكانها بثقة وسهولة ويسر. فيها كثير من المشابهة الشكلية، والمتواليات المربوطة بفكرة تعبيرية واحدة، ترسم معالم الوحدة العضوية الجامعة لمفاتن خبراته، ونقل رؤاه الفنية في لحظات التجلي، سواء في آليات الرصف الشكلي لمكوناته، أو توزيع شخوصه ومقاماته الحسيّة والجمالية أو في توازنها البصري واللوني مع الخلفيات المتممة.

جمالية من نوع تعبيري مفعم بالخصوصية، خارجة من عقال النمطية، غير عابئة بالجمال التقليدي المألوف لعين المتلقي السوري، وخارجة عن طوق الرتابة الكلاسيكية ومنابت التشكيل الواقعي التسجيلي. جماليات تأخذ بغواية الفكرة وفتنة الأسطورة وتفاصيل الحكاية، وغناء الألوان المتداعية داخل حيز اللوحات، والمشمولة بحركية السرد البصري في ملامح تعبيرية غير مسبوقة، قادرة على التقاط مشاهد بصرية مُختارة من لياليه الحالمة، متداخلة النصوص والشخوص، مليئة بإحالات الرمز والمدلول والمعاني التي تنشدها كعوالم غابرة، في إسقاطات تعبيرية وجمالية لواقع آني مُتخيل وافتراضي. لوحات عامرة بحيوية التفاصيل لا تُبقي في متن سطوحها مساحة مجانية،‏ تبني جسورًا آمنة ومتواصلة مع عين المتلقي وبصيرته، في إحداث نوعٍ ما من التأمل والتفاعل البصري، لمقامات بصرية غرائبية في تداخلها الشكلي المرصود، فيها نوع من الجدل والحوارية الحسيّة والعقلية مع غائية النصوص. حوارية تربط الشكل البصري بالمفهوم الفكري، وتُقارب المسافة ما بين جمهور التلقي من جهة، وذات الفنان المثقفة والموهبة الخبيرة والمدربة في خوض غمار التشكيل البصري، من جهة ثانية. وتقود الجميع إلى واحة عبور موفق لمدارات الفكرة التعبيرية المرسومة، وعلاقتها بوظيفية الخبرة ومقدرتها على صناعة لوحة فنية وحرفية بلحظة ابتكار واحدة، فيها فسحة لتجليات الفنان في سبك رؤيته الفكرية التي تقف وراء اختيار نصوصه بحرفية عالية المستوى.

لوحات تستدعي شخوصه المتناسلين من روح القصيدة البصرية الملونة، والحافلة بثنائيات الوجود الكوني الإنساني، المُبحرة في عوالم الأسطورة الشعبية المسكونة في عقل الإنسان وتفاصيل وجدانه، والمُشبعة بالمتناقضات الدائمة، العاكسة لوعي الإنسان لذاته عمومًا والفنان (يكن) خصوصًا، وسبل تعامله ورؤيته لمحيطه الإنساني والبيئي. محكومة بجبرية المحاورة والتناقض الأزلي ما بين مفاهيم الخير والشر، الحب والكراهية، الموت والحياة، الحنو والقسوة، الجلاد والضحية، الأسياد والعبيد، الحكام والمحكومين، الرجال والنسوة. ثنائيات دائمة التواجد في النفوس والسلوك الإنساني، ومقامات بصرية لحكايات شعبية محلية وكونية، غربية ومشرقية، حداثية الوقع البصري والصدى الشكلي، متوالدة من التعبيرية الحسيّة، المحملة ببهاء اللون وتدرجاته الاشتقاقية المتناسلة من دائرة ألوان قزح، ومفاعيل دائرة الألوان الأساسية. الخطوط اللينة لرقص المساحة واحتضان الملونات، مصحوبة بحركية الشخوص المرنة، ككتل شكلية لونية مُعبرة عن مدلولات الفكرة المُتخيلة التي تقض مضاجع الحكاية، وتفض بكارة الأسطورة المشرقية في كثير من الأحوال، لا تخرج عن لازمة الفنان (يكن) التصويرية وخاصيته المعهودة في تقديم شخوصه ومكوناته، تفتح سجل التكامل والتواصل ما بين فنه القديم وفنه الجديد، وأساطيره السابقة في جلجامش وسواها، مع مختاراته المستعارة من فصول (ألف ليلة وليلة) وليالي الفنان التشكيلية، ومعالم شخوصه المرتسمة ومفرداته التعبيرية، عِبر (شهريار الملك، وشهرزاد الأميرة، الراوية والضحية، السندباد البري والبحري، الجواري، عبد اللـه البري، الشاطر حسن، السبايا، العفريت والصياد، الأفعى، الحمّال، حورية البحر، الحمامة، الحّمال، ويوميات وسهرات الطرب في مدينة حلب)، وما يتخللها من مغامرات ومخاطر، وليالي مجون وتعب وخوف. تنبش ركام قراءاته الشخصية ومُطالعاته الثقافية المتوالدة من رحم ذاكرة المكان المسورة بأطواق الحكاية والأسطورة، ينقلها الفنان في مراحل متعاقبة، عبر تجلياته البحثية على ورق التأليف الأولي، ولحظة عبوره إلى مفاعيل مختبره الفني، ومعاينة بصرية لمكوناته وتعديل مسارات الفكرة المشتهاة. ومن ثم المباشرة الطلقة باللون على سطوح الخامة، التي يتملك فيها ناصية أفكاره وأدواته، والقبض على مقاليد الكتلة والسطح والفراغ، والسباحة الخطيّة واللونية في تداعيات الفكرة.

لوحاته المسكونة بالحركة والسكون في آن معًا، والحبلى بالعناصر الآدمية داخل أسوار التكوين، والخلفية المحيطة، هي لسان حاله الفكري وبيانه البصري، ومقولته الفصل في استكمال دورة بحثه الفني الدؤوب، ومجاله الحيوي في اختيار مفرداته وعناصره التشكيلية، واستخدام وظيفي لأدواته، ورسوخ لموهبته ودربته كفنان قادر على تطويع خاماته وأفكاره، في اتجاهات بصرية هو يُريد لها أن تكون، وهي أشبه بسلسلة من المقولات مربوطة بخيط إبداعي واحد، يصل بصاحبه إلى تأسيس تعبيرية حالمة، وتفرد تقني حافل بالخصوصية.


عبد الله أبو راشد


المصدر
جيرون