خطاب الكراهية في منظور سوسيولوجي



يعلق أحد مثقفي النظام السوري، الذي يعرف عن نفسه بأنه أديب وشاعر، على ما يحصل في الغوطة الشرقية: “سورية تنظف نفسها من الرعاع”، وأكاديمي آخر يقول: “يجب إعادة الغوطة إلى زراعة البطاطا، بعد تدميرها”، وأخرى تقول: “الغوطة يجب أن تُباد برجالها وأطفالها وشجرها وحجارتها، فالجميع إرهابيون، أما نساؤها فسيكونون خدمًا لنا”، أو من يطلب جمع لحم أطفال الغوطة وتحويلها إلى “شاورما” في مطاعم دمشق…. الخ، وهناك الكثير من عبارات الكراهية السوقية، التي يتحفوننا بها على وسائل التواصل الاجتماعي، لا مجال لذكرها، إنها عبارات الكراهية ليست من شخصيات سورية عادية، بل من شخصيات تدّعي العلم والثقافة، وتعكس كراهية، مرتبطة برواسب ثقافية ثأرية تاريخية، وبسرديات تاريخية عن المظلومية المرتبطة بصور الجوع وعمالة الخدم عند الآخر.

خطاب الكراهية السوقي هذا، ليس بجديد، فقد سبق رأس النظام بشار الأسد ووصف السوريين الآخرين المعارضين لنظامه الاستبدادي بـ “الجراثيم”، وعلى مواليه استئصالهم من سورية، وهذا ما يحصل في الغوطة الشرقية، وحصل في المدن السورية الأخرى كما يعتقدون.

عودة إلى تعريف خطاب الكراهية، لم نجد تعريفًا علميًا موحدًا متفقًا عليه عالميًا، لذلك وجدنا أول تعريف له عام 1993 في الولايات المتحدة، بأنه “الخطاب الذي يدعو إلى أعمال العنف أو جرائم الكراهية، ويوجِد مناخًا من الأحكام المسبقة التي قد تتحول إلى تشجيع لارتكاب جرائم الكراهية، وعادة ما يستخدم أصحاب ذلك الخطاب أساليب متعددة، من جعل الآخرين يشعرون بعدم الأمن، والعنف والإيذاء وتدمير الممتلكات، والتهديدات”. وهناك تعريفات متعددة يمكن إجمالها بأنها نوع من العبارات التي تتضمن هجومًا أو تحريضًا أو انتقاصًا أو تحقيرًا من شخص أو مجموعة من الأشخاص، بسبب أن أحدهم أو بعضهم يحملون صفة إنسانية مميزة بالدين، العرق، الطائفة، المكان الجغرافي… الخ، ودائمًا ما يكون خطاب الكراهية أداة لتحفيز المشاعر، وإثارتها وتعبئتها في اتجاه معين؛ فيصبح أداة لتكوين سلوك وثقافة واقتناع بالتمييز والعنصرية، وانتقاص حقوق الآخرين، وهنا تكمن خطورة خطاب الكراهية، خاصة إذا وجد منابرَ إعلامية تحتضنه، كما هو حاصل في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تعتبر بيئة خصبة تزيد من انتشارها وفاعليتها.

يأخذ تعريف خطاب الكراهية توصيفات عدة، يمكن أن نجملها في العنف اللفظي المُتضمَّن في العبارات اللغوية السوقية، والكراهية الصريحة المعلنة، والتعصّب المذهبي الديني والتمييز الطائفي والعرقي والنظرة الاستعلائية في الخطاب المصحوب بالإقصاء للآخرين. وبالتالي، يصبح الحديث عن خطاب الكراهية، كظاهرة مجتمعية، بمثابة ظاهرة اجتماعية مرضية، انتشرت بسرعة أكثر من السابق، مع انتشار وسائل الاتصال الاجتماعي في المجتمعات المحلية.

من خلال البحث عن مؤشرات سوسيولوجية للعبارات اللغوية السوقية المتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي من قبل موالي النظام السوري، في ما يخص حرب الإبادة على الغوطة الشرقية، وجدنا فيها أنماطًا سلوكية تتسم بالكراهية والإقصائية العدائية العلنية للآخرين من السوريين، بل وصلت هذه الكراهية إلى حدّ الدعوة العلنية لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في الغوطة الشرقية، كما حصل في مجزرة مدينة حماة عام 1982 وفي حالات حرب الإبادة التي يمارسها النظام السوري على المدن السورية من عام 2011 حتى الآن، هذه اللغة العدائية الإجرامية صدرت وتصدر من أفراد وجماعات، تتخذ أشكالًا متنوعة، من أبسطها استخدام المفردات اللغوية السوقية المحلية التي تنتمي، في الغالب، إلى اللهجات المحلية، وتحديدًا لغة الشارع التي لم تستوعبها لغة الفصحى وثقافة التمدن. إلى التفاخر بثقافة “تعفيش” بيوت الآخرين، وتصل إلى ممارسة القتل الفردي والجماعي، كونه مشرعًا لها على أرض الواقع كما تعتقد، ودليلها أنها خارجة عن محاسبة القانون لها.

أمام هذه الظاهرة الاجتماعية في سورية –ظاهرة الكراهية- لا بدّ من طرح عدة تساؤلات حول العوامل التي تقف وراء ظهورها، وخصوصيتها في المجتمع السوري. وهل رواسب التعصب المذهبي والطائفي ما زالت تفعل فعلها في هذه الظاهرة؟ وهل لسرديات المظلومية التاريخية لدى البعض دور فاعل فيها؟

الواضح أن المحرك الرئيس لهذا الخطاب هو التعصب المذهبي والطائفي، الذي تستثيره ثقافة قديمة متجددة في ذهنية بعض السوريين، تتغذى من الثقافة الأسرية المغلقة على نفسها، وبقايا ثقافة المجتمعات المحلية المغلقة على نفسها أيضًا، ومن مؤسسات اجتماعية أخرى حديثة العهد، من وسائل التواصل الاجتماعي إلى منظمات وجمعيات أهلية تقوم على أساس مذهبي، أو طائفي، أو عرقي…. إلخ.

فإذا ما دققنا في خطاب الكراهية في سورية؛ وجدناه يراوح بين خطاب وطني ظاهر (يُحارب الإرهاب) وبين خطاب مذهبي طائفي يتلطى مختفيًا وراء الأول (وطني)، يعتمد على التشويه والتعبيرات غير اللائقة، وعلى لغة صدامية ترفض التوفيق أو التوافق، بل تصر على الانتصار، كما تزعم، ولو على حساب الاعتبارات الإنسانية، لغة بعيدة عن أعمال العقل، توجهها غرائز وحشية ناتجة عن رواسب ثقافية خرافية –لم تعد مقبولة في عصرنا- في ذهنيتها، شمولية تضع الخير كله في طرفها والشر كله في الطرف الآخر، وأي تشكيك في ذلك هو تشكيك في الانتماء إلى هوية الجماعة (المذهبية، الطائفية، المناطقية… إلخ) بالساتر وفي هوية الانتماء للوطن (النظام) في الظاهر.

أخيرًا، واهمون -أفرادًا كانوا أم جماعات- من يعتقد أنه بخطاب الكراهية سوف ينتصر على الآخر، بل إذا لم يكن العكس، إن خطاب الكراهية في التجارب العالمية لم يجلب لأصحابه إلا الهزيمة، ولا بدّ من التذكير أن “خطاب الكراهية” أصبح، بتعريفاته المختلفة، بحكم المحظور في عدد كبير من دول العالم، لذلك نجد أن على الجميع من العقلاء السوريين دون استثناء رفض خطاب الكراهية صراحة وبكل أشكاله العلنية وغير العلنية (ضمن المجموعات المذهبية والطائفية)، والاتجاه نحو حوار شفاف وفعال لبناء هوية سورية مشتركة للسوريين كافة، وحل الخلافات كافة على أسس بعيدة عن لغة القتل والإبادة والإقصاء، على أسس القيم الوطنية والإنسانية الجامعة للسوريين كافة.


طلال المصطفى


المصدر
جيرون