وهم كاليقين، يقين كالوهم



يراودني وهم، لست متأكدًا أنه وهم خالص، لأنني لا أعرف وهميته من حقيقته، وهو أن في الإنسان غريزة أخرى! غريزة لم تتحدث عنها كتب علم النفس، ولا كتب علم الحياة، ولا بقية كتب العلوم: هي غريزة البحث! نعم غريزة البحث عن شيء ما، عن أمرٍ ما، عن أحدٍ ما، عن مجهولٍ ما. أحيانًا نتوهّم أننا نعرف ما نبحث عنه، لكننا في العمق كأننا -حقيقة- لا نعرف تمامًا، نبحث عن ضائع أو مفقود أو موجود في وهم من الأوهام! أو موجود في رحلته إلى عدم الوجود، حتى عندما نجد ما نجد، أيا كان ما نجد، لن نتوقف أكثر من لحظة عنده، ثم نعود نبحث من جديد.

انتصب ابن آدم واقفًا، ثم مشى على اثنتين، ومنذ ذلك الحين وهو يبحث، يدور، يدوّر، يروح، يجيء، يبتعد، يقترب، يقلّب الأشياء، يأخذها، يمتلكها، يراكمها، ثم في لحظة ما يرميها، يدوس عليها، ويعود يبحث من جديد… هو لا يجد ما يبحث عنه! حتى وهو يجد أبعاضًا منه هنا أو هناك، فسريعًا ما يتصرّف كأنه لم يجده، أو كأن ما وجده ليس هو الذي بحث عنه.

غريب هذا الكائن الباحث عمّا يعرف وعما لا يعرف، فكل ما يجده ليس هو تمامًا ما يبحث عنه، فلا يستطيع أن يتوقف عن البحث ولا البحث يوصله إلى ما يريد، في هذه الرحلة التي ليس لها نهاية ولا حدّ.

هو وليد يبحث، وهو طفل يبحث، وهو بالغ يبحث، وهو شاب وهو كهل وهو شيخ وهو عجوز. وهو عازب وهو متزوج وهو مطلّق وهو عانس. أين كان وكيف كان وكائنًا من كان. حاله على حالها وهو على حاله، وهما وجهان لحالة واحدة، لا تهدأ ولا ترتاح ولا تقرّ ولا تتوقف.. ولا تجد. وهو عاقل يبحث، وهو خرف يبحث، وهو مبدع وهو أهبل وهو فيلسوف وطوال عمره، ولو عاش قرونًا أو نبتت له القرون، هو يبحث، والبحث هو البحث، والداء هو الطبيب والطبيب هو الداء!!

أي هدف، أي أمر، أي حال، أي أحد، ما إن يعثر عليه حتى يزورّ عنه، حتى ينتقل إلى سواه، يضعه خلف ظهره ويستمر في البحث…! أنا لا أدري حقيقةً ما اسم هذه الحالة الغريبة فيه، لكنني شبه متأكد من حقيقة وجودها.

يتسرّع أولئك الذين يعتقدون أن البشر يبحثون عن الطعام ويبحثون عن الشراب وعن المال والشهوة والمتع فقط، هذه أعراض شكلية خارجية لنداء أعمق وأقوى، وأكثر غورًا واستعصاءً، أعراض لغريزة البحث، مطلق البحث، بحث لأجل البحث، بغض النظر عن المبحوث عنه، سمِّه البحث العبثي، إن شئت. مع هذا ثمة التقاء وثمة اختلاف، فالبحث للرأس كالطعام للمعدة، كالماء للعطش، كالشهوة للجسد، لا يتوقف وليس له نهاية، كلما وصل نهض من جديد! وأما الاختلاف هو أنّ المعدة تعرف ما تريد، والجسد يعرف ما يريد، أما الرأس فأشك أنه يعرف تمامًا ما يريد! من يدري ربما هذا هو ما أدى بالبشر إلى البحث عن المجهول المطلق، أطلقوا عليه كثيرًا من الأسماء، لعلّ أهمها على الإطلاق اسم الله!! يبحثون عن الله الذي لا يعرفون عنه شيئًا بتاتًا، لكنهم متأكدون، إن لم يكن من حقيقة وجوده المستحيل، فمن حقيقة بحثهم عن هذا المستحيل الكامل المنيع على إمكانهم الناقص، على الأقلّ.. يا للهول!

عجوز طاعنة في السن، عمرها حوالي مئة عام، إن لم يكن أكثر، رأيتها ذات حين تقلّب ما تطاله يداها، من الحجارة، إلى عيدان الحطب، إلى الورق، القشّ، القشور، أكياس النايلون، تقلب أي شيء تصله أصابعها الراجفة اليابسة! كل ما تطاله تقلبه ثم تتركه إلى سواه، ثم تقلّب سواه بلا فائدة ولا جدوى. هي تبحث بلا كلل، وتستمر تقلّب وتبحث:

– عمّ تبحثين يا جدتي؟

سألتها.. فنظرت إليّ بعينين غائمتين شاردتين غائبتين في حضور ملتبس، تكادان لا تريان ولا تعيان:

– والله لا أعرف يا ولدي!

صعقتني العبارة كأنها سلك كهربائي، وهزّت كياني الفاني! ليس لأنها تحمل ما تحمل من معاني مأسوية فقط، بل صدمتني أكثر لأنها أصدق عبارة سمعتها في حياتي. ربما أنّ هذه العجوز اليابسة بهذه العبارة الحيّة أثبتت نظرتي (وربما نظريتي!) دون أن تدري:

لا أعرف عما أبحث! قالتها، وكأنها تريد أن تقول ما لم تقل:

ولا أستطيع أن أتوقف عن البحث عما لا أعرف ما هو!!

هي فعلاً تبحث عما لا تعرف ما هو، ولا أين يكون، ولا كيف يكون، ولا إن كان كائنًا، أو يمكن أن يكون… هي مستحيل يبحث عن مستحيل!

ثمّة نقصٌ ما لا يُرمّم، نقصٌ ما في الرشيم، في البذرة، ثمة نقص ما في الخلية الأولى، في الذرّة، في عمق النواة، في العناصر، في الجسيمات المتناهية في الصغر، كما أختها المتناهية في الكبر، النقص هو النقص، والبحث هو البحث، ما دام هناك نقص؛ فسيبقى هناك بحث!!

ثمة حركة لا غاية لها سوى ذاتها، سوى أنها حركة، بحث دائري عبثي! نسبغ عليه غايات كثيرة. لا أعرف إن كان عبثًا صرفًا، وإن كنت أميل إلى الظن أنه كذلك! هو نداء هذه الغريزة الكاسحة ليس فقط في أبناء البشر، بل في كل شيء، كل شيء على الإطلاق، ثمة بحث عما لا أحد يعرف ما هو!

كل شيء يبحث عما ينقصه، عن عدمه، عن مجهوله، عن غيابه، يبحث ولا يعرف لماذا ولا كيف ولا إلى أين!

أبدًا ثم أبدًا، ليست الحياة على هذا الكوكب المعجزة هي المعجزة… نحن المعجزة!!

يا للهول!! يا للجمال!! يا للروعة!! يا للعجب!! ياااااااه …. يا للحياة!!!


عبد الحميد يونس


المصدر
جيرون