روسيا والعرب – التاريخ والمستقبل

26 شباط (فبراير - فيفري)، 2018
9 minutes

علاقات تاريخية تربط الروس بشعوب منطقة الشرق الأوسط منذ قرون عديدة. فقد ساهم السوريون في نشر المسيحية في العالم، ومنها روسيا القيصرية، قبل حوالي ألف عام، وأشرفت كنيسة أنطاكية وسائر المشرق على الكنيسة الروسية الناشئة، وفي القرن السابع عشر، زار بطريرك أنطاكية وسائر المشرق البطريرك مكاريوس روسيا مرتين، وأشرف على ترقية الكنيسة الروسية من مطرانية إلى بطريركية، ثم أشرفت الكنيسة الأنطاكية السورية على الإصلاحات الشهيرة في الكنيسة الروسية. وقال لي أحد الدبلوماسيين المستشرقين الروس إن الأخوين ميفودي وكيريل اللذين وضعا أبجدية اللغة الروسية (الكيريلية) قدِما من سوريا البيزنطية.

كما جاء إلى روسيا في القرن التاسع عشر نخبة من المفكرين والمختصين بالتاريخ والأدب العربي؛ ليعلّموا الروسَ اللغةَ العربية، ومنهم جيورجي مرقص، إلى جانب آخرين من مصر وفلسطين ولبنان ومن الجزيرة العربية (السعودية).

بعد أن فتح المسلمون مدينة (دربند) الداغستانية (باب السلام)، قبل ألف وثلاثمئة سنة تقريبًا؛ انتشر الإسلام على مراحل في حوض الفولغا وفي شمال القوقاز، وحصل تأثّر كبير بالثقافة العربية والإسلامية، وبخاصة في الأدب الروسي، فها هم أعظم أدباء روسيا، مثل الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين، يتأثرون بشخصية النبي (ص)، وبتعاليم القرآن الكريم (قصيدة “النبي”، وقصيدة “محاكاة القرآن” للشاعر بوشكين).

وأول التعاليم العلمية المتعلقة بالطب والفلك تعرّف عليها الروس من المخطوطات العربية القديمة، ولطالما شغف الروس بالأساطير والقصص العربية، مثل “ألف ليلة وليلة” و”كليلة ودمنة”.

وكتب مستشرقون روس مثل إغناطيوس كراتشكوفسكي مؤلفات قيمة عن التاريخ والجغرافيا والأدب العربي، لدرجة أن بعض أبحاثه العلمية في أدب الشحادين (أدب الكدية) أصبح مرجعًا للباحثين العرب في الجامعات العربية.

كما شهدت فترة الحكم السوفيتي علاقات صداقة تاريخية مع العديد من الدول العربية، وبغض النظر عن العلاقات التي حملت في أغلبها طابعًا أيديولوجيًا؛ فإن علاقات ودية استمرت لأكثر من 70 عامًا.

يطول الحديث عن التفاعل الثقافي والحضاري، بين روسيا والعرب، على مر القرون. ولكن في الجانب السياسي، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي 1991، حدثت فجوة وانقطاع تاريخي في العلاقات الروسية العربية؛ إذ سادت أجواء باردة وسلبية، في وقتٍ أعيدَت فيه العلاقات الدبلوماسية بين موسكو وتل أبيب، بعد انقطاع دام 25 سنة (تم قطع العلاقات السوفيتية الإسرائيلية بعد بدء عدوان حزيران 1967).

وبعد استلام بوتين سنة 2000 السلطة في روسيا؛ بدأت العلاقات الروسية العربية بالانبعاث من جديد. وبالفعل شهدت الفترة 2000-2008 زيارات للرئيس بوتين إلى العديد من الدول العربية، بما فيها دول الخليج ومصر.

لم يلحظ الكثيرون أن الدولة الروسية المنبعثة بعد 1991، وبخاصة بعد 2000، ليست هي روسيا السوفيتية (إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي) فالقيم تغيرت والمبادئ اختلفت جذريًا، حيث أصبحت السياسة الروسية براغماتية، تنطلق من المنفعة الاقتصادية والمصالح الجيوسياسية، قبل أي شيء.

كان الاتحاد السوفيتي صديق العرب، وقدّم لهم مساعدات على شكل ديون تُقدر بعشرات المليارات من الدولارات بصفقات أسلحة ومساعدات اقتصادية. وأخيرًا تم إعفائهم من هذه الديون، وكان الثمن هو التأثير الأيديولوجي على الأنظمة العربية، وكسبها إلى جانب المعسكر الاشتراكي المعادي للمعسكر الرأسمالي.

أما روسيا فقد نسيَت موضوع الصداقات والمساعدات المجانية، وأصبحت تسعى في علاقاتها الخارجية إلى تحقيق أرباح ومنافع اقتصادية وجيوسياسية وغيرها. وكما قال بعض الخبراء: روسيا اليوم تقول لشركائها ادفع أولًا واستلم ثانيًا.

لا ضرر بأن تتبع روسيا سياسة براغماتية متبادلة المنفعة. وهذا حقها، ولكن من أسوأ جوانب السياسة الخارجية الروسية أن موسكو حافظت على علاقات متميزة فقط مع تلك الأنظمة الشمولية، التي استمرت وتجذرت بدعم من النظام الشيوعي الستاليني، الذي لم يحسب يومًا حسابًا لحقوق الإنسان وحرياته.

لكن ما جرى في السنوات الأخيرة من مواقف سياسية روسية، وخاصة منذ اندلاع الثورة السورية 2011، لا يستوعبه العقل تمامًا. فقد شهدنا خلال 7 سنوات تصلبًا في الموقف الروسي، إلى جانب نظام مارس الإجرام والقتل والإبادة لشعبه، وقبل ذلك لم يسلم منه بلد مجاور من الـتآمر وإثارة المشكلات والاعتداء، بدءًا من لبنان إلى الأردن إلى فلسطين والعراق وحتى تركيا. وأقل الدول التي عاداها النظام فعليًا هي “إسرائيل”، التي تحتل الجولان، وتنتهك حقوق الشعب الفلسطيني. كما أن أكبر صديق للنظام الأسدي هو نظام الملالي في طهران، بأجنداته القومية الطائفية الموجهة ضد العرب والمسلمين.

ووصل الأمر بالروس إلى أنهم وظفوا طاقات عسكرية واقتصادية هائلة، لتثبيت نظام الأسد المجرم، وشاركت روسيا في قصف المدن والمدنيين الأبرياء، أملًا بإجهاض الثورة السورية وتحقيق الانتصار الاستراتيجي العسكري والسياسي. ولكن الانتصار النهائي الذي تحلم به موسكو ما يزال بعيدًا.

في سورية، وقفت روسيا مع نظام الأسد الديكتاتوري المستبد المعادي للشعب. هذا النظام الذي عمل، منذ استلام الأسد الأب، على استقطاب حاضنته من الطائفة العلوية والأقليات، بطريقة الترغيب والترهيب. حيث سلّم المناصب الحساسة في الجيش والأمن لأبناء الطائفة العلوية أو المخلصين له من أبناء الأقليات والسنة. وعلى الرغم من قناعتي بأن الطائفة العلوية ليست كلها راضية بالولاء لعائلة الأسد، فإن الواقع المفروض عليهم جعلهم يخنعون لهذا الطاغية.

ولا أستطيع فهم الموقف الروسي، الذي يروج لمقولة أن الخطر قادم من السنّة. ويعلن المسؤولون الروس، ليل نهار، عن تخوفهم على مصير الطائفة، بينما قُتل مليون سوري أغلبهم من العرب السنة، ولم تصدر موسكو بيانًا واحدًا يُندد أو يتعاطف مع ضحايا القتل الهمجي في سورية. إذًا؛ تعاطف الروسِ مع الأقليات في سورية هو موقف سياسي كاذب وليس موقفًا إنسانيًا. خذوا مثالًا تعاطفهم مع الأكراد السوريين حصرًا، وكأن الأكراد في إيران وتركيا والعراق حصلوا على حقوقهم كاملة. أيضًا هذا متاجرة بالورقة الكردية لا قناعة بمظلومية الكرد، طبعًا مع ملاحظة أنني أعدّ الكرد إخوتنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، في صراعنا من أجل الحرية والديمقراطية في سورية، ضد نظام شمولي اضطهد كل المكونات السورية، سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وقوميًا ودينيًا وثقافيًا.

ولا ننسى أن أكثر من 20 مليون مسلم سني يعيش في روسيا، ولا أعرف كيف انحازت موسكو إلى جانب الهلال الشيعي الذي استباح العراق وسورية ولبنان واليمن! ما هي حسابات موسكو الاستراتيجية للتعايش والتعاون المستقبلي مع العرب والمسلمين (الأغلبية الساحقة من السنة).

ضخّت روسيا أموالًا في سورية لدعم نظام الأسد، على أمل أنها ستجني أضعافها، ولكن هيهات؛ إذ إن التدخل العسكري الروسي الذي خسّر روسيا حوالي 5 مليارات من الدولارات، لن تجني مقابله روسيا، بسبب استحالة تحقيق الاستقرار في سورية، ما دام الأسد المجرم في دمشق. وبالتالي؛ مصالح روسيا الاقتصادية والجيوسياسية في خطر، فالمخاطر تحيق بروسيا في سورية من كل جانب: الأميركيون واستفزازاتهم، ومشاكسات النظام وإيران و”حزب الله”، ضد المواقف الروسية التي تريد الحل السياسي والخروج من المستنقع الذي ورطهم فيه الأميركيون، كما يقول العديد من الخبراء الروس.

الأنكى من ذلك هو كيف ستحل موسكو معضلة إعادة التعمير التي تحتاج إلى عدة مئات من مليارات الدولارات؟ من سيدفع في ظل غياب الاستقرار وإحلال الأمان والسلام في سورية؟

كيف، ومَن سيضمن لروسيا مصالحها في سورية؟ أهو بشار الأسد الضعيف الهزيل، الذي تلعب به إيران وروسيا ذات اليمين وذات الشمال. من سيضمن لروسيا مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية، وتطبيق الاتفاقيات التي وقعتها مع نظام الأسد لمدة نصف قرن؟

روسيا اليوم أمام مفترق طرق: إما الانسحاب من سورية، وهذا مستبعد بالنسبة إلى عقلية القيادة الروسية على الأقل بسبب الكلفة الكبيرة في الداخل، حيث ستخسر شعبيتها، وإما أنها ستُعدّل مواقفها، وتتراجع عن تمسكها الأعمى الغبي ببشار الأسد. والذي سيجعلها تغرق أكثر في المستنقع الأفغاني السوري، وتخسر كل شيء. خياران أحلاهما مرّ.

المخرَج الوحيد -وهذه فرصة تاريخية للروس- أن يطبقوا قرارات (جنيف 1) والقرار 2254 الدوليين؛ وبذلك تكسب روسيا الشعب السوري والمستقبل في المنطقة.

محمود الحمزة
[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

جيرون