جرائم مروعة في الحديقة الخلفية لقصر الرئاسة



يحق لنا، قبل أن ينتهي الوقت المتبقي لحياة أكثر من أربعمئة ألف مدني على أطراف دمشق، أن نتساءل: هل كانت أشلاء الأطفال والنساء المطمورة تحت ركام أبنية دمّرتها الطائرات الحربية، هي الثمن الذي كان على الشعب السوري أن يدفعه، بعد أن خذل العالم العدالة، وسمح لقوة الأسد الغاشمة أن ترتكب جرائم إبادة، وكأنها تنظف الحديقة الخلفية لقصر الرئاسة؟

لم يعد القتل في سورية بالأمر الطارئ، إنه جريمة منظمة ومعلنة. وعندما يتمادى الأسد في ارتكابها، فإنما يضيف صفحة أكثر قتامة إلى سجل إرهاب الدولة الذي اشتهرت به الديكتاتوريات العسكرية عبر التاريخ.

لنتأمل قليلًا ذلك التحدي المؤرق الذي يواجه المجتمع الدولي اليوم. فبعد ساعات قليلة على انتهاء جلسة مجلس الأمن، ليلة 24 شباط/ فبراير، وتوصل الدول الخمس إلى توافق حول وقف الأعمال العسكرية ضد الغوطة الشرقية، مدة شهر؛ أعلن الجنرال بهجت سليمان (رجل استخبارات الأسد) بدء عملية عسكرية واسعة على جبهة حرستا، واقتحام حي العجمي ومزارع حرستا، والتحرك من محور الزريقية كتيبة الدفاع الجوي وحزرما، باتجاه تل فرزات والنشابية، بمشاركة سلاح الجو ومختلف القوات المرابطة على مشارف الغوطة الشرقية، مشيرًا إلى أن جيش الأسد سيقوم بتنظيف الغوطة ممن أسماهم “الهمج والزومبي”.

ستشكل العملية الحربية المقررة بكل تأكيد -إذا ما تمت- آخر اختبار أخلاقي، لمدى جدية مجلس الأمن في وضع حد لتوحش الأسد، ولجمه، وقلع أنيابه القاتلة. العقبة هنا هي أن بوتين والأسد كلاهما ليس لديه أي رغبة في إحلال السلام، في بلد منكوب، نصف شعبه على قوائم اللجوء في الخارج، وربعه يعيش بهلع وخوف، والربع الأخير على لوائح الموت بقنابل تمطرها السماء.

روسيا الاتحادية التي تساعد الديكتاتور الابن منذ عام 2015 في تصفية شعبه. وسبق لها أن أعلنت، في تموز/ يوليو 2017، دخول الغوطة الشرقية في عداد مناطق خفض التصعيد، بحسب اتفاق (أستانا) الذي وقعته الدول الراعية الثلاث: روسيا وتركيا وإيران، قد لا تعنيها الهدنة كثيرًا. وسجلها العسكري يحتوي على خروقات فاحشة، لاتفاقات سبق أن ضمنتها، تعكس اتباعها سياسة جرمية، ليس فقط في حلب التي تعرض قسمها الشرقي لمذبحة مروعة بسلاحها الجوي، أواخر عام 2016، بل في إدلب وحمص ودرعا وأطراف العاصمة، ومؤخرًا غوطة دمشق التي تشهد منذ أسابيع تصعيدًا عسكريًا واسعًا، وتتعرض لقصف مركّز، تحت ذريعة “القضاء على الإرهاب”.

إن الغطاء الوحيد الذي مكّن نظام الاستبداد من مواصلة المجازر والمذابح ضد شعبه، هو النظر إلى مشروعه التصفوي الدموي الذي يلقى دعمًا غير محدود من حلفاء ينتمون إلى أنظمة فاشية، على أنه أحد أوجه ما يدعى “الحرب على الإرهاب”. ومن اللافت على هذا الصعيد أن القاتل الشاب حارب الفئات الفكرية المتنورة والتقليدية داخل المجتمع السوري، بما فيها الفئة العلمانية التي تبنى “البعث الحاكم” علمانيتها. وأحجم في المقابل عن محاربة الإرهاب الفعلي الذي تمثله (داعش)، مثلًا، ومكّن لها، وفتح الطريق أمامها، كي يستثمر انتشارها الجغرافي لاحقًا، في التخلص من خصومه ومعارضيه، وغالبية شعبه الثائر ضد التسلط والهيمنة والإقصاء.

قبل ثمانية عقود، استعان الجنرال الإسباني فرانكو، بقوات نازية وفاشية من ألمانيا وإيطاليا، للضغط على مناوئيه. كانت المرة الأولى التي تم خلالها استهداف سكان مدنيين على نحو متعمد، حين هاجمت الطائرات الحربية الأسواق المزدحمة بالرواد، في مدينة جيرنيكا بمنطقة الباسفك، وارتكبت مذبحة مروعة، خلدها بابلو بيكاسو بجدارية شهيرة.

إن عقوبة الموت الجماعي التي لحقت بسكان مدينة مسالمة، تشبه ما تشهده المدن السورية إلى حد بعيد، وقد قارَن ريتشارد كوهين، في مقال نشرته صحيفة (واشنطن بوست) في أيلول/ سبتمبر 2016، ما تعرضت له مدينة حلب من قصف بربري، على يد قوات الأسد وحليفه بوتين، بالعمليات العسكرية التدميرية التي قامت بها ألمانيا وإيطاليا ضد الإسبان، في الحرب العالمية الثانية، وقال: “لو كان بيكاسو على قيد الحياة حتى يومنا هذا؛ لرسم جدارية مماثلة تدعى حلب“.

في ظروف تكاد تكون مشابهة، يدعو وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بوقاحة، إلى تعميم ذلك النموذج الذي عاشته حلب على الغوطة الشرقية، بقتامة لونه، وحِدة الشعور بالعذاب والألم، ومشاهد الوجوه المتوجعة، والأجساد المدماة، الملتوية، والتشوهات البشعة. إنه يهيئ الرأي العام الدولي لـ “جيرنيكا” سورية، داخل منطقة تحاصرها قوات الأسد، وتمنع عنها الماء والطعام، وتخنقها بأدخنة سلاح عنقودي، حارق، كيمياوي، سام، على أمل أن ينتصر الديكتاتور على آخر معقل، لمعارضيه، بالقرب من دمشق.

قد يكون مجرد أمل على غرار غيره. لكن بوتين الذي تحدّث نيابة عن الأسد، أمام كبار مسؤولي القيادة الحكومية والعسكرية، في حفلٍ أقيم بقصر المؤتمرات في الكرملين بمناسبة مئوية تأسيس الجيش الأحمر، قال: “إن الشعب السوري سيذكر بالشكر دومًا، مساعدة القوات الروسية له، في دحر الإرهاب، حيث حطم الجيشان العربي السوري والروسي قوى الإرهاب الدولي على الأرض”.

ترى هل يكذب أحدهم على الآخر؟ أم هو مجرد دور جرمي يتم تبادله بغياب قوس العدالة؟ أم أن الفاشية التي “حوّلت الغوطة إلى جحيم على الأرض” -بحسب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس- تتماهى الآن بين قاتلين: أحدهما يرى الآخر، عندما يقف أمام المرآة؟


علاء كيلاني


المصدر
جيرون