ارقد في سلام يا خيا



أعيدُ شريط (شباب اليرموك) وللمرة الخامسة تختلط ذاكرتي بمشاهد الفيلم، أفقد التركيز، وينتهي بي المطاف بالبكاء المر. من أرثي أولًا؟ هل أبدأ بصديق الفلسطينيين والثورة السورية المخرج الفرنسي أكسيل سالفاتوري سينز الذي فقدناه في بداية العام، وهو لا يزال في السادسة والثلاثين من عمره، أم أرثي المخيم المحاصر الذي بات أشلاء، أم أعزي فلسطين وسورية بخسارة المسرحي الجميل حسّان حسان الذي راح ضحية التعذيب. من أين أبدأ؟ وما هذه الملحمة التي تأبى الأسر في حضن الكادر السينمائي، وتصر أن تخترقنا، وتتحرك فينا، وتواصل كتابة فصول المأساة.

ترحل بي ذاكرتي إلى اليرموك الذي كنتُ أحس بانتمائي إليه أكثر من انتمائي إلى جنسيتي، وأراني أضيع في ذاك الخليط العجيب من الزحام والضوضاء والفوضى الذي يطبع حركة البشر، وشكل المباني. أستنشق الغبار، أتأمل المساكن العشوائية الفقيرة، أتعثر في حفر الأزقة الضيقة، ويزداد عشقي لأهل المخيّم. أدخل جريدة “الحرية”، أو مجلة “الهدف”، أزور المكتبة الفلسطينية، أو مركز غسان كنفاني، أحاور المثقفين، وتدهشني قدرتهم على غرس أشجار الثقافة، في كل مكان من هذا الفضاء المنذور للنسيان والإهمال.

القليل ممن عرفتهم هناك، كانوا من جيل النكبة، والكثيرون مثلي من جيل الهزيمة، يومها كنتُ أعتقد أن مأساة احتلال فلسطين لن تفوقها مأساة أخرى في العصر الحديث، حتى أثبت نظام الممانعة عكس ذلك، فُجعتُ ولم أفاجأ، صدمني موقف رفاق القضية الفلسطينية، ممن تحالفوا مع النظام ضمنًا أو علانية، وأسهموا بإراقة الدم السوري والفلسطيني، وكانت صدمتي أشبه برجّة دماغية، أحدثت شرخًا عميقًا في قلبي وذاكرتي، لن أبرأ منه.

الحياة لم تمنحني فرصة اللقاء والحوار مع الجيل الثالث للنكبة، الفرصة جاءتني مع الفيلم الوثائقي الطويل الأول لـ أكسيل (شباب اليرموك)، حين انفتحت عدسة التصوير على صبيتيّن وثلاثة شبان في عمر الورود، وهم يلعبون الشدة، ثم ينشغلون بالإجابة عن سؤال طرحه المخرج عليهم حول معنى الوطن الغائب والمنفى الحاضر.

سبعون دقيقة هي مدة الفيلم، ترصد ثلاث سنوات من تاريخ المخيّم، في زمن يبدو وكأنه ثابت إلى الأبد أواسط عام 2009، وينتهي أواسط عام 2011 بانقلاب جذري، أحدثته انطلاقة الثورة السورية، وعدسة التصوير ثابتة، كما هو زمن البداية، تستقر على سطوح المباني العشوائية، وفي الغرف المغلقة، وقلما تخرج إلى الفضاء العام، لأنها تدور سرًا من غير موافقة أمنية. عدسة ثابتة تتأمل أسراب الطيور والحمام في سماء صافية، وتلتقط الجمال الذي يسكن أهل المخيّم، ويجعله ساحرًا في عيون الآخرين، على الرغم من كل مظاهر التداعي والإهمال وأكوام النفايات التي تطفو على سطح المشهد.

العدسة الثابتة، وهي تستقبل الإجابة عن سؤال الوطن والمنفى والهوية، كمفهوم وجودي وثقافي، تدخل بيوت شباب اليرموك، تطل على أحلامهم وخيباتهم، ترصد أنماط عيشهم وعلاقتهم بالمكان القسري، وبمن سبقهم من أجيال المخيّم، وتفسح المجال لسهرة فلسطينية نموذجية، تجمع الأصدقاء، من مختلف الأعمار، حول مائدتها العامرة بالطعام والمشروبات الروحية، وهم ينشدون أغاني الشيخ إمام للحرية والحب، وفي كل لقطة من الفيلم، نعثر على بذور الرفض المستبطن للسلطة، ونلمس الحذر الشديد في اختيار مفردات اللغة والتعبير، خوفًا من الجدران التي تتنصت على الجميع، ومع هذه العلامات الخاطفة تتشكل لوحة صادقة عن المخيّم، وعن حياة شريحة واسعة من سكانه.

تنسيم تكره واقع اللجوء، وتود لو تقتلع ما أسمته بالخيام الإسمنتية، وتستدير عائدة إلى فلسطين. علاء يرفض أداء خدمة العلم الإلزامية لدى “جيش التحرير”، التابع لجيش النظام السوري، ويرى المخيّمَ مثلثًا متساوي الساقين، قاعدته نحو الجنوب ورأسه إلى الشمال، حيث انطلقت أولى موجات النزوح، يحزم حقيبته ويغادر إلى التشيلي ليدرس السينما. سامر يعتبر منفاه ورطة وجودية، ويتأرجح بين شعورين متناقضين: البقاء والهجرة. ولا تجد وعد الكلمات المناسبة لتصف شعورها الملتبس إزاء المخيّم. بطل الملحمة، الفنان حسان يعشق المخيّم بكل تفاصيله، ويود لو يقضي عمره فيه، أن يقدم عرضًا مسرحيًا واحدًا كل عام، ويعيش مثل سائر البشر بعيدًا عن الأضواء والشهرة. حسان الذي يرى أن لا هدف أسمى من العمل على مفهوم المواطنة، يلتحق بخدمة العلم، ويظهر بالبزة العسكرية، وحين ينهي خدمته الإلزامية بعد عام ونصف، يتزوج حبيبته وعد، ويبدأ بتأسيس حياته. يتزامن ذلك مع بداية الثورة السورية التي يتحدث عنها صراحة في الرسالة الأخيرة، ويضيف: “قررت أن أبني بيتًا على السطح، أشعر الآن أني جزء من المخيّم أكثر مما سبق”. الرسالة التي يتناوب (شباب اليرموك) على قراءتها، ثم ينهضون ويقفون متلاصقين أمام عدسة التصوير في مشهد الختام، وكأنهم في صورة تذكارية، تعلن بداية جديدة سيمضون إليها يدًا واحدة.

تبقى الصورة التذكارية عالقة في فيلم يجوب العالم، ويحصد الإعجاب والجوائز، فيما يرحل مخيّم اليرموك بمن فيه، بعد أن تعرض لنيران النظام السوري، أواسط كانون الأول/ يناير 2012، ثم الحصار الخانق منذ حزيران/ يونيو 2013، الحصار الذي منع المساعدات الإنسانية من الوصول إلى من بقي من الأهالي، وترك قرابة مئتين من النساء والأطفال والشيوخ يموتون من الجوع ونقص الأدوية.

حسان الذي بقي صامدًا في المخيّم المنكوب، أسس فرقة “ردّ فعل”، وصوّر من خلالها “اسكتشات” ساخرة بعنوان “على هوى الحكي”، قام وحده بأدائها، ورفعها على (يوتيوب)، لينقل حقيقة ما آلت إليه أوضاع الساكنين، تحت وطأة القصف والحصار والجوع، إلى أن اعتُقل، وانتشر خبر وفاته تحت التعذيب في 18 كانون الأول/ ديسمبر عام 2013.

بعد ثلاثة شهور على الفاجعة، قدم أكسيل فيلمه القصير (عزيزي حسان) يوم الخامس عشر من آذار/ مارس 2014، وأهداه إلى وعد، العاشقة التي ترملتْ باكرًا، وإلى الشعب السوري. قصيدة رثاء من أربع دقائق، تنتقل صورها ما بين المخرج الهائم في الليل تحت سماء باريس الماطرة، وحسان، في فضاء مخيّم اليرموك، ومع حركة الذهاب والإياب، نقرأ على الشاشة عبارات قصيرة، تكثف مشاعر الود والألم، وتختصر قصة الطغيان:

“وصلت المجاعة، وكان من الضروري الخروج من المخيّم، لكن تم إيقافكَ، ولمدة شهرين ونصف لم أعرف شيئًا عن أخبارك. عندما قلتُ إن حياتكَ في خطر، كنتُ أشعر أن الناس لا يصدقونني، كما لو أني كنت أبالغ. وفي أحد الأيام كانت السلطات قد أبلغتْ عائلتكَ، أنكَ مت يوم اعتقالك، ومن دون إعطاء تبريرات، كأن تبرير ذلك لا يعنيهم، ورفضوا تسليم جسدكَ”.

“من يعرف النظام السوري حقًا؟”.

“ارقد في سلام يا خيا”.

في وداع المخرج أكسيل سالفاتوري سينز (1982-2018) حضر اثنان من (شباب اليرموك)، بعد أن أصبحا لاجئين في فرنسا، بحسب ما كتبته ريم كيلاني. سامر سلامة حمل النعش مع أهل الفقيد، وزغردت تسنيم فريد، كما الأم الفلسطينية حين تشيّع ابنها الشهيد، فيما كان حصار الجيش السوري النظامي ومجموعات الجبهة الشعبية (القيادة العامة) على مخيّم اليرموك، يدخل يومه الألف وستمئة وخمس وسبعين على التوالي، وتبلغ حصيلة الضحايا الفلسطينيين 3655 قتيلًا، وحصيلة المعتقلين في مراكز الاحتجاز التابعة للنظام السوري 1663 فلسطينيًا، بينهم 105 إناث. بحسب ما تمكنت (مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية) من توثيقه في تقريرها الصادر مع بداية العام الحالي، ناهيك عن أن تنظيم (داعش) استطاع أن يخترق الحصار، وبات يسيطر على ثلاثة أرباع المخيّم، الفضاء المستباح الذي كان يُدعى ذات يوم “عاصمة الشتات الفلسطيني”، وملجأ الأحرار.


تهامة الجندي


المصدر
جيرون