سورية وضرورة الأحزاب



من الكلمات التي راجت في أوساط المثقفين، بعَيد ثورات الربيع العربي: “انتهى اليوم عصر الأحزاب”، “لا فائدة اليوم من قيام الأحزاب”.. وبقدر ما تدل هذه العبارات على ردة فعلٍ متشائمة حيال أنظمة تسلطية، قامت على أحزاب أحادية، سلطوية، شاملة؛ فإنها تدل على سطحية فهمٍ لسيرورة الديمقراطية في العالم العربي، الديمقراطية التي يكون الحزب السياسي هو أبرز أداة عصرية لممارسة العمل الديمقراطي، بله العمل السياسي.

يُعرّف كاي لاوسون الحزب السياسي: تنظيم من الأفراد يسعى للحصول على تفويض مستمر (انتخابي وغير انتخابي)، من الشعب أو من قطاع منه لممثلين محددين من ذلك التنظيم، لممارسة القوة السياسية لمناصب حكومية معينة، مع الإعلان أن تلك القوة ستمارس بالنيابة عن الشعب.

ويرى سارتوري أنّ الحزب هو أي جماعة سياسية تتقدم للانتخابات، وتكون قادرة على أن تُقدِّم من خلال الانتخابات مرشحين للمناصب العامة.

كلمة الحزب (Party) تعني الجزء، وهذا يعني أنّ الحزب الواحد يتناقض مع ذاته، في شموليته ورفضه للتعددية الحزبية، أي أن مبدأ “حزب البعث” القائل بأنه الحزب القائد للدولة والمجتمع، ومثله الأحزاب الستالينية والنازية والشوفينية، تعني إخضاع المجتمع برمته لثقافة الحزب، والنظر إلى كل أعضاء المجتمع كمؤيدين للحزب أو متعاطفين معه، أو معارضين له، وهؤلاء يتم تصنيفهم “أعداء للدولة والمجتمع″، في نظام الحزب الواحد.

زُهد الناسِ والشباب، في الانتماء إلى أحزاب سياسية حديثة المفاهيم ومنظمة الأدوات والآليات، ساهم في تشتت المجتمع وضياع طاقاته، في ردة فعل على النظم السابقة التي جعلت الحياةَ الحزبية فرصةً لتأليه الزعيم الحزبي الأوحد، وبالتالي موت وجفاف وبوار الحياة السياسية في المجتمع.

يرى الاجتماعي الاقتصادي روبرتو ميشال أنّ النضال السياسي لا يمكن أن ينظم ويصبح ذا قوة وفعالية إلا إذا اعتمد على مبدأ التنظيم، ويكون التنظيم الشرط المطلق للنضال السياسي، فلا نضال دون تنظيم سياسي، ولا يمكن أن توجد ديمقراطية دون تنظيم.

لم يعرف العالم القديم الأحزاب كمؤسسات تمثيلية، وكانت مؤسسة الحرب هي المؤسسة الأولى التي يقوم عليها المجتمع والدولة أو الإمبراطورية، حتى القرن السابع عشر كان العسكر هم المؤسسة الأعلى في المجتمع تنظيمًا، وفي كتابه (من الحرب إلى سياسة الأحزاب) يلخص رالف غولدمان كيف أنّ الحزب مؤسسة، تنقل المجتمع من حالة الصراع الحربي العنيف إلى حالة الصراع السياسي اللطيف.

فالعنف يفرخ العنف، والمؤسسات السياسية هي وحدها القادرة والفعالة على لجم مثل هذه النزاعات، واستبدالها بإجراءات تقود إلى ثقة ونبذ العنف والتكامل السياسي.

مع نشوب الحروب، سواء بين الدول أو الحروب الأهلية والصراعات المحلية؛ لاحظ علماء الاجتماع أنّ السبب الرئيس في استمرارية هذه الحروب هو غياب السياسة، وبهذا المعنى تصح مقولة: السياسة هي استمرار للحرب، وأصبحت وريقات التصويت في صندوق الانتخابات البديلَ عن طلقات الجنود والثوار.

استطاعت الأحزاب السياسية أن تكون المؤسسة العليا الأولى والأقوى في المجتمع، ممثلة بقبة البرلمان كسلطة تشريعية، وأصبحت المؤسسة العسكرية تبعًا وخدمًا لقرارات الشعب، وصارت المؤسسة العسكرية، في الدول الحديثة في المرحلة الثانوية، كأي مؤسسة خدمية تتوزع مهامها في الحفاظ على الأمن الداخلي والأمن الوطني أو القومي.

بينما الدول الديكتاتورية أو أحادية الأحزاب، أو الدول التي لا تحقق أول شروط الديمقراطية -أي وجود حياة سياسية حزبية ومتعددة- تتسمُ بوجود سيطرة واضحة للجيش والعسكر والحرس الجمهوري أو الملكي، كمؤسسة أولى وأساسية في هذه الدول، وفي ذلك يقول غولدمان: عندما تكون المؤسسات الممثلة للشعب ضعيفة، ومؤسساته الحزبية غير متطورة أو عاجزة عن ممارسة سيطرتها على الجيش؛ فإن هذا يسهل استخدام هذا الجيش لاضطهاد شعوب أخرى، بل ربما لاضطهاد الشعب نفسه (قارن ما فعله جيش حزب البعث في لبنان وما يفعله اليوم).

لذلك يصبح المعيار الديمقراطي، والشعور بوجود حياة سياسية، هو جعل المؤسسة العسكرية تبعًا لقرارات الشعب، وهو ما رأيناه في تركيا، عندما استطاعت القوى الحزبية والسياسية والمدنية إفشال الانقلاب العسكري التركي، في غضون 24 ساعة!

لو استقرأنا ثورات أوروبا 1848 والحرب الأهلية الأميركية وحرب المئة عام وديكتاتوريات نظم أميركا اللاتينية؛ لوجدنا أن أهم ما جرى كاستحقاق لهذه المآسي والدماء والحروب هو تطور الآليات السياسية في هذه الدول، ونمت أحزاب أصبحت القوة المعبرة عن سيادة الشعب والمجتمع المدني على السلاح والعسكر، ولذلك يجزم أحد علماء الاجتماع بأنّ تطور الأرجنتين يرجع بالدرجة الأولى إلى نضال الأحزاب، وتشكيل محاكم جرائم حرب على غرار محكمة نورمبيرغ في ألمانيا.

ما أود الإشارة إليه أن سورية لن يصلح حالها دون وعي ديمقراطي منظم، وهذا لن يكون بغير أحزاب، بغض النظر عن الشكل الذي ستصبح عليه سورية (مقسمة أو موحدة أو مفدرلة) وتقديم كبار مجرمي الحرب للعدالة الدولية أو المحلية.

رحيل النظام السوري أو رأسه لن يحل مشكلة السوريين؛ ما لم ينظم السوريون أنفسهم في أطر حزبية ومدنية واجتماعية، تعبّر عن توجهاتهم وأهدافهم وتنوعاتهم من أحزاب محافظة إلى أحزاب وسط إلى أحزاب يسار، بهذا المعنى، عبّر ريمون آرون بقوله: تنتصر الثورات غالبًا في المجتمعات شديدة التنظيم.

ولذلك أدرك الأسد الأب خطورة وجود أحزاب سياسية خارجة عن جناحه، فابتدع ما سُمّي لاحقًا “الجبهة الوطنية الديمقراطية”، وجرّم كل الأحزاب التي لم تنطو تحت هذا الجناح الأسدي، وفي العمق كان يرى الأسد أن وجود حالة حزبية -وإن كانت ذات جذر فكري مشترك مع حزب البعث أو كان أغلب كوادرها من الطائفة العلوية- يعني مستقبلًا تقويضًا لحكمه، وتقويضًا لشعوره بتملك الطائفة، سياسيًا وحزبيًا وشعبيًا.

جديرٌ بنا -السوريين- اليوم، انطلاقًا من الوطنية السورية، أن يتخلى السوري عن هذا الغرور في داخله، وعن شعوره بأنه حزب لوحده، وبأن له رؤية خاصة ومشروعًا سياسيًا خاصًا، فكم من فيلسوف أوروبي دخل حزبًا، وصار عضوًا كغيره من أفراد الحزب. عملية الانتقال الديمقراطي في سورية، وتحييد مؤسسة الجيش والعسكر وجعلها خادمة للسياسة، لا تكون من دون أحزاب قوية، ومجتمع منظم ومتماسك، وهذا لن يكون دون صناعة أحزاب وطنية وقوية وحديثة التوجهات والأفكار.


منصور حسنو


المصدر
جيرون