من أجل تمكين الإرادة الشعبية السورية



يكثر الحديث مؤخرًا عن أهمية وشكل التوافق الدولي، في حلّ المسألة السورية، لدرجة بات الحديث عن آمال وتطلعات السوريين شبه غائب أو مغيب. وهو ما يتوافق مع تراجع ملحوظ بين غالبية السوريين، بغض النظر عن أماكن تواجدهم في التعبير عن رؤاهم ومواقفهم وتطلعاتهم، نتيجة تفشي مشاعر اليأس والإحباط والخذلان من مجمل المجتمع الدولي، فضلًا عن تراجع الشعور العام بقدرة الإرادة الشعبية على التأثير في مسار الأحداث الراهنة والمستقبلية. لكن هل هذا هو الواقع الحقيقي، وهو النتيجة الأخيرة في هذه المرحلة من تاريخ سورية؟ بمعنى هل نشهد مرحلة تسليم سورية للمجتمع الدولي، وبالأخص أميركا وروسيا وتركيا وإيران، ليرسموا ويحددوا حاضرها ومستقبلها؟ في الحقيقة، أعتقد أننا نملك من المؤشرات والدلالات الراهنة والتاريخية ما يكفي لدحض وهزيمة هذه الصورة السوداوية والاستسلامية، والتي تحتاج إلى بعض التروي والهدوء في إدراكها والتحكم بها.

فمن ناحية نجد أن السوريين قد واجهوا العديد من الأحداث والتداعيات المهمة، والمؤثرة في نفسياتهم وفي إيمانهم بقدراتهم الذاتية في السنوات السبعة الماضية، والتي تراوح بين غياب مطلق لأي دور شعبي سوري في التأثير على سياسة وتوجهات النظام الحاكم، سواء الداخلية أم الخارجية، على طول المرحلة الممتدة منذ بدايات سيطرة الأسد على السلطة حتى اندلاع الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، وبين صعود صارخ لفاعلية ودور الشعب ما بعد انطلاق الثورة، الذي انعكس في حجم الحشود الشعبية السورية المنخرطة بفاعلية في شتى مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية، وبشتى الوسائل والطرق الميدانية منها والإعلامية، لتعبر بوضوح عن رؤاها وأفكارها وإرادتها، عبر وسائل تقليدية أحيانًا كالتظاهرات والمنشورات، وعبر وسائل ابتكرها السوريون أنفسهم وفقًا للظروف الصعبة التي فرضها النظام على السوريين، ولا سيما بعد انطلاق الثورة. حيث ضجت شوارع سورية بالعديد من اللقاءات الجادة التي تتباحث حول الشأن العام، وحول شكل وطبيعة مستقبل سورية، فضلًا عن تحول الفضاء الإلكتروني إلى ساحة لتبادل الآراء وحشد الجهود لصالح قضية محددة مثل اختيار أسماء لأيام التظاهر أو المساهمة في تحديد وتقويم مسار القوى المعارضة العسكرية والسياسية، لتنطلق هذه الجهود من حتمية انتصار الثورة وإسقاط النظام، مهما بالغ في إجرامه واستبداده، ومهما حاولت القوى الإقليمية من حمايته ودعمه في حربه القذرة على الشعب السوري الثائر. وهو ما تمّ التعبير عنه بقول الشاعر أبو القاسم الشابي: “إذا الشعب يومًا أراد الحياة … فلا بدّ أن يستجيب القدر. ولا بد لليل أن ينجلي … ولا بد للقيد أن ينكسر”، الذي مثل حال وقناعة السوريين، وربما قناعة جزء كبير من الشعوب العربية في تلك المرحلة، بأفضل طريقة ممكنة، والتي تقول -بكل وضوح- ها قد بدأنا مسار استعادة صوتنا وإرادتنا وفاعليتنا، ولن تتمكن قوى الظلام والإجرام من إرهابنا وصدنا عن بلوغها.

غير أننا نتيجة الخذلان والتجاهل الدولي لمعاناة السوريين، التي كانت بمثابة ضوء أخضر للنظام السوري، كي يستمر في إجرامه ويزيد من وتيرته وفداحته، ونتيجة لتعدد قوى الاحتلال المباشرة وغير المباشرة الفاعلة على الأرض السورية، والتي تسعى لتحقيق مصالحها دون أي اعتبار لمصالح السوريين، والتي تمتلك إمكانات عسكرية ولوجستية كبيرة وضخمة، مقارنة بما يمتلكه الشعب من إمكانات، قد ساهم كل ذلك في انكسار قناعة وإيمان السوريين بقدراتهم ودورهم؛ لتبدأ مرحلة جديدة عنوانها انتظار التوافق الدولي الذي يأمل السوريون من خلاله تحقيقَ الحد الأدنى من مطالبهم، ولو اقتصر الأمر على تنحي رأس النظام الحالي.

لكن على الرغم من كونها الحالة الأكثر انتشارًا اليوم، فإننا نشهد، بصورة متكررة وغير منتظمة، بعض مظاهر الإرادة السورية كالتظاهرات الحاصلة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والتي عادة ما تعبّر عن روح الثورة وأهدافها، عبر استنكار ورفض عودة سيطرة النظام ورفض استمرار سيطرة قوى الظلام الصاعدة على ظهر الثورة، بفعل الدعم المالي واللوجستي والإعلامي الدولي، فضلًا عن نجاح السوريين -ولو كان نسبيًا- مؤخرًا في التأثير على ممارسات وسياسات بعض القوى المحتلة لسورية ولا سيما الروسية، الأولى من خلال إفشال مؤتمرها السياسي أي مؤتمر سوتشي الذي كان من المفترض له تشريع سيطرة واحتلال روسيا لسورية وفرضها لاعبًا رئيسًا وربما وحيدًا. والثانية من خلال نجاح شرائح واسعة ومتعددة الآراء السياسية من السوريين، في إدانة التصرفات المرتكبة باسم (غصن الزيتون)، وفرضِ فتحِ تحقيق في بعض هذه الاعتداءات على الفصائل المشاركة في العملية، فعلى الرغم من رفض جزء كبير من السوريين لممارسات قوات (PYD) العنصرية والإجرامية، فإنهم قد رفضوا أن يتم التذرع بها للتأسيس لإجرام آخر.

وعليه؛ فإننا أمام تقلبات عديدة في إيمان السوريين بقدراتهم ودورهم، وفقًا للعديد من العوامل الذاتية والموضوعية، كما أننا أمام بعض الشواهد على قدرة السوريين في التأثير بشؤونهم الخاصة، مهما كانت قوة الطرف المنتهك لهم، ومهما عانوا من إحباط وتشرذم. وهو الأمر الذي يفرض علينا العمل على تعزيزه وتطويره، عبر العمل ميدانيًا على إعادة الثقة بقدراتنا الذاتية، من خلال العمل على التحشيد والتعبئة لقضايا جزئية ومحددة وقابلة للتحقيق تمامًا، كما حصل في كل من المثالين السابقين، فإن نجح السوريون في فرض إرادتهم -ولو في بعض المسائل- فسيساعد ذلك في تسريع عودة الفاعلية والعمل المشترك السوري من جديد، كما أنه سيُفشل جزءًا من مخططات القوى المحتلة والمستبدة، الأمر الذي يقلل من الأعباء المستقبلية على السوريين التي تعترض سبيل تحررهم من جميع قوى الاحتلال والاستبداد، كما تعترض مسار بناء سورية العدالة والحرية والمساواة والتطور التي نريد. فنحن أمام واقع بائس، فرضه النظام والمعارضة التابعة علينا، يتطلب الكثير من العمل والفاعلية السورية، حتى نتمكن من تجاوزه، عاجلًا أم آجلًا، لذا كلما تمكنّا من تقويض مخططات قوى الاحتلال والاستبداد، وأسرعنا في استعادة الحيوية والفاعلية السورية؛ اختصرنا من سنوات العذاب والشقاء ومن تكاليفها البشرية والمادية.


حيّان جابر


المصدر
جيرون