أميركا أول الفائزين في سورية



بعد أن أُبعد الحلم السوري الهش بدولة ديمقراطية حديثة عن الواجهة، ودخل في طور الكمون إلى ما شاء الله، وفي الوقت الذي كانت فيه مختلف القوى تتصارع على الأرض، كانت أميركا تراقب المشهد أو تديره من خلف الستارة، بخيوط واضحة تارةً وبأخرى غير مرئية تارةً أخرى. وبعد الكثير من الرسائل الغامضة أو الخجولة على امتداد سنوات ثلاث؛ تشكلت عام 2014 قوات التحالف الدولي ضد (داعش) بقيادتها، وكان لا بد من مضيّ ثلاث سنوات أخرى حتى تنقشع “الغيوم الداعشية”، ويتكشف المشهد السوري على استحواذ أميركا على حصة مهمة من الكعكة السورية بأقل الخسائر: نحو 30 بالمئة من مساحة سورية.

الحصة الأميركية شبه ناجزة، ولن تنفع الاحتجاجات، أما التجاوزات العملية عليها من قبل أصحاب النفوذ الآخرين، فتواجَه بالرد المناسب، هذا ما فهمته تركيا، دبلوماسيًا، عند مطالبتها بمنبج، وما توصلت إليه روسيا بعد رسالة النار الأميركية، عند اقتراب قواتها “غير النظامية”، من حقل (كونيكو) للغاز شرقي دير الزور.

وهكذا، بعد الإعلان عن القضاء على دولة (داعش)؛ وجدت القوى ذات النفوذ بعضها في مواجهة بعض، وكان لا بد من تحديد المسافات والتخوم، واقتسام “المسرح” السوري الدامي، الذي غادره أهله أو تكوموا في زواياه، فيما بقي قسم منهم ليهلل ويصفق لشاغلي المكان، ولا ستارة تسدل على المشهد بعدُ.

حصة أميركا مميزة؛ الأقل سكانًا، والأكثر غنى بالثروات، في باطن الأرض وعلى سطحها، والأكثر تحديدًا من الناحية الجغرافية؛ الحدود التركية من الشمال، والعراقية من الشرق، ويفصلها نهر الفرات عن باقي سورية في الغرب. كما تحتفظ أميركا خارج هذه المساحة بالسيطرة على مطار الطبقة وقاعدة التنف ومنطقة منبج. وهي، في المقابل، غير معنية بحصص الآخرين خارج نطاق سيطرتها أو ما يحدث فيها، إلا بحدود رفع العتب، سواء في عفرين أو إدلب أو الغوطة الشرقية، إذ إنّ السوريين لا يصلحون في هذه الفترة سوى كقرابين لتحقيق مصالح الدول، ومنها أميركا، فذلك لا خلاف عليه على ما يبدو!

خلعت أميركا رداء الحرب ضد (داعش)، لتعلن بقاءها في سورية إلى ما تشاء، والقوة الأمنية التي يجري تشكيلها ستتكفل بحراسة حدود منطقة نفوذها، في حين يؤمن لها الخط الممتد، من اليعربية في الشمال الشرقي إلى التنف في الجنوب الغربي، السيطرةَ المباشرة على المجال البري السوري، وضبط التحركات الإيرانية باتجاه الغرب، أو منعها عند الضرورة. وهكذا، حصلت الولايات المتحدة على ما تريده من دون خوض الحروب على الأرض، وبحدّ أدنى من الخسائر، فيما ينظر إليها الحلفاء والأعداء بعين الحسد والإعجاب في آنٍ معًا!

تتوسط الجزيرة السورية المنطقة الأكثر ديناميكية واضطرابًا في الوقت الحاضر، ما يمكّن أميركا من التحكُّم بدائرة كبيرة تشمل إيران وتركيا و”إسرائيل”، فضلًا عن العراق ولبنان والأردن وباقي سورية، وهي غير مضطرة بعد الآن إلى الخضوع لنزوات أردوغان وتهديداته، وستؤمن القواعد الجوية التي تبنيها في الجزيرة السورية البديل عن قاعدة أنجرليك، علاوة على مراقبة القواعد والأنشطة الروسية في غرب سورية. كما أن بوسعها تجاهل تهديدات الحشد الشعبي في العراق، ومن ورائه إيران، بمهاجمة القوات الأميركية، أو الضغط على الحكومة العراقية حتى لا توافق على إقامة قواعد أميركية ثابتة في العراق، بعد هزيمة (داعش).

يبدو أن أميركا قد استفادت من الدرس العراقي جيدًا، وبصورة عملية؛ فاستبدلت التدخل السريع واستخدام قوى عسكرية كبيرة الحجم في العراق بنمطٍ آخر سلس في سورية، عن طريق تكليف الآخرين بتنفيذ الجزء المتعلق بالمهام الأكثر قذارة في الحرب؛ فعلت ذلك من خلال تشكيل “قوات سورية الديمقراطية” ذات الأغلبية الكردية في الجزيرة، بصورة مباشرة، وعن طريق روسيا ذاتها، في باقي أنحاء سورية، على نحوٍ غير مباشر. وتحقق الفوز لـ (إسرائيل)، أيضًا، عندما تم إضعاف الأعداء المحتملين من حولها، بطريقة لم تكن لتوفّرها لها أكبر المغامرات العسكرية، ويمكنها التفرغ بعد الآن للتخلّص من باقي جيوب “المقاومة”، في قطاع غزة ولبنان.

فهل ستتمكن أميركا من ضبط التوترات والصراعات في هذه المنطقة الواسعة وغير المستقرة، أم أن عدم الاستقرار هذا سيجبرها على الرحيل؟ تتوقف الإجابة عن هذا السؤال، إلى حدٍّ بعيد، على قدرة إيران على تنظيم حرب عصابات ضد الوجود الأميركي في سورية والعراق، وتحمل مسؤولية ذلك، وهذا مشكوك فيه؛ لما عُرف عن دقة حسابات الإيرانيين وحذرهم عند الاقتراب من دائرة النار. لكن، ربما تظهر (داعش) من جديد، ذاتها أو بلون مختلف، وما علينا سوى انتظار التطورات، وقد يكون بعضها غير منتظرٍ البتة.

يتوقف الكثير أيضًا على قدرة الولايات المتحدة ورغبتها في النهوض بالجزيرة السورية، من خلال تشجيع مختلف الاستثمارات والأعمال، وعلى انكشاف نيّاتها: أتريد أن تتكامل منطقة الجزيرة مع سورية الأم عند الوصول إلى الحل السياسي المتعثّر، أم ترغب في تحويل هذا الجزء إلى “كوريا جنوبية سورية”، أم لا تريد فعل أي شيء، لا هذا ولا ذاك!

مع ذلك، ثمة مؤشرات على دور أميركي مستجدّ في سورية، كان أحد الأسباب التي دفعت روسيا إلى التريّث، قبل استخدام حق (الفيتو) على القرار الأخير المتعلق بوقف إطلاق النار، وضرورة وصول المساعدات الإنسانية إلى المحاصرين في الغوطة الشرقية، وقد صدر القرار بالإجماع، منذ عدة أيام، بعد تضمينه معظم الملاحظات الروسية وتلغيمه بها.

أميركا تتحمل مسؤولية أخلاقية عن وصول الحالة السورية إلى ما صارت عليه، وفقًا لما تقتضي مسؤوليتها الأخلاقية كدولة عظمى، ولعدم الحد من التدخلات الإقليمية والدولية والإسراع بتطبيق الحل السياسي المتفق على خطوطه العريضة، في (جنيف 1) عام 2012، ما أضرّ بسمعتها كثيرًا، وتجاوز ذلك إلى الشك بنيّات الغرب في اعتماد القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان، وتطبيق معايير مغايرة خارج حدودها.

نعم، يمكن القول، حتى الآن، إنّ الأميركيين، واستطرادًا، الإسرائيليين، هم أول الفائزين في سورية، وبالطبع، السوريون هم أكبر الخاسرين، في الماضي والحاضر، وربما في المستقبل!


منير شحود


المصدر
جيرون