الاستبداد المهيمن والاستبداد الهش



يعتبر المؤرخون الطاغية الأثيني بيسيستراتوس أول الطغاة، على اعتبار أن استبداده جاء في بيئة ديمقراطية، وقد تمكن من بسط سلطته، من خلال قدرته على شرعنة قوة عسكرية خاصة به هيأت له التفرد بالسلطة، وكان ذلك مضافًا إلى قراءته للأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الخاصة بأثينا التي مكنته من بناء استبداده، وجاء من بعده ابنه هيبياس الذي لم يكن شريكًا في تشكيل منظومة العلاقات التي أقامها والده للتفرد بالسلطة، ونتيجة لذلك سهل الانقلاب عليه وعودة أثينا للديمقراطية مرة أخرى. لم تؤرخ هذه الحادثة لظهور الاستبداد في بيئة ديمقراطية فحسب، بل منحت الاستبداد نوعين، يمكن تصنيف كل الحالات اللاحقة ضمنهما: الاستبداد المهيمن والاستبداد الهش.

ينتج الاستبداد المهيمن عن توفر المستبد على جملة من الإمكانات والعوامل المسبقة التي يكون ضالعًا فيها، وتمنحه القدرة على فهم نمط العلاقات الاقتصادية والسياسية، وأشكال البنى الاجتماعية والثقافية في مجتمعه، وبناء نظام الحكم الخاص به، ضمن إطار عملية توازِن تلك العلاقات، بما يتناسب مع ترسيخ فرديته في السلطة من خلال طبقة مستفيدين زبائنية، وذلك بعيدًا عن مدى صلاح الحكم أو النيّات الخاصة بالمستبد، أما الاستبداد الهش، فهو الشكل الذي يرافق مستبدَّ الصدفة الذي يصل إلى مرحلة الطاغية دون تدخل شخصي منه، وهذا الاستبداد يكون مبنيًا على تصور الطاغية للمجتمع والدولة اللذين يتسلط عليهما، انطلاقًا من نتائج لأسباب يجهل الطاغية أساسًا كيفية نشوئها، ويتراكب مع ذلك وهمٌ زائف بالشرعية الخارجة عن نطاق التوازنات الموضوعة، من أجل الإمساك بديناميات السلطة، وبذلك مع اختلال تلك التوازنات التي تفتقد من يعيدها أويرممها أو يوجد نمطَ علاقات بديل قادر على الإبقاء على  ضبط مخرجات النظام السياسي، بما يتناسب مع سلطة المستبد، ويواجه التغيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذا الفرق بين نظام حافظ الأسد المهيمن، وبشار الأسد الهش.

وصل حافظ الأسد إلى السلطة، بعد مجموعة من محاولات الجيش السيطرة على الحكم، وكان مطلعًا على نصفها الأول، وشريكًا يزداد أهمية في نصفها الثاني. بنى نظام البعث العسكري بعد انقلاب آذار 1963نظامًا أمنيًا يخترق الجيش في أصغر كتائبه، حيث لم يتعامل ضباط الجيش على أنهم مؤسسة عسكرية واحدة تبتغي السيطرة على الحكم في البلاد، كما الجيش المصري مثلًا، وإنما كان الجيش السوري عبارة عن مجموعة ميليشيات متناحرة، تسعى كل ميليشيا منها للسيطرة على الدولة بما فيها باقي الميليشيات، ولذلك حاول البعث تضييق السلطة في الجيش بالضباط البعثيين، وزرع ضباطًا وصف ضباط في كافة الكتائب، وركز على القوى الجوية وكتيبة المدرعات التي طالما بدأت الانقلابات منها، وكان البعث العسكري بقيادة صلاح جديد يعتمد بالدرجة الأولى على الضباط من الطائفة العلوية، وبغض النظر عن أن ذلك نتج عن رغبة طائفية، أو بسبب نمط العلاقات الزراعية التي ما زالت تحكم حزب البعث حتى اليوم، فإن هذا الأمر مكّن حافظ الأسد، رجل صلاح جديد حينئذ، من أن يضع صمام الأمان الأول لرغبته الاستبدادية، من خلال التركيز على الجانب الطائفي من علاقته مع هؤلاء الضباط وصف الضباط، وفي مرحلة لاحقة تمكن من وضع مصطفى طلاس رئيسًا للأركان، بعد طرد أحمد سويداني عام 1968؛ ما جعل كافة التنقلات العسكرية لعناصر الجيش بيده، وكان مسيطرًا بدوره على القوى الجوية بشكل مطلق، وكان الأسد متلمسًا لغليان المدينيين في سورية، وبخاصة من طبقات الملاك والتجار ورجال الدين، بعد سياسات البعث العسكري الاشتراكية الراديكالية، فسرعان ما قرب منهم، ولموقع سورية المعقد جيوسياسيًا؛ سعى الأسد الأب لإقامة توازنات وعلاقات زبونية مع القوى العظمى مثل الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وغيرهم، وكان المختصر في تلك العلاقات أنه يمكن لأي دولة الحصول على ما تشاء من سورية، على أن يكون الأسد هو من يقدم ذلك الشيء، واستطاع الأسد بعد أن تعمّد بالدم في أحداث الثمانينيات أن يرسخ نمط العلاقات الاجتماعية السياسة والثقافية والاقتصادية التي تتحصل في نتائجها على ثبات حكمه، وكان استبداده مهيمنًا طاغيًا بات في التسعينيات غير قابل للكسر، واستطاع السيطرة على البلاد بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وإنتاج شكل جديد من البنى والعلاقات الداخلية والخارجية التي أدت إلى استمرار استبداده.

جاء بشار الأسد طاغية بالصدفة، لم يكن شريكًا في بناء المجتمع والدولة السورية الأسدية، ولم يكن مطلعًا عليها بشكل كافي مثل أخيه الذي قُتِل بعد أن تم تحضيره بشكل جدي، وجاء بشار الأسد وفي رأسه خطة طموحة للبرلة، ولكن اللبرلة الاقتصادية وليس السياسية، وبمعنى أدق: لبرلة الاستبداد، وفي المرحلة الأولى رغب في وضع خطة تنموية لسورية عمومًا، واستعان بمستشارين وخبراء سوريين، وتم العمل على ما سمي حينئذ “سورية 2025″، ولكن في تلك المرحلة، كان هناك ثلاثة خطوط متوازية في حالة صراع على تحديد مستقبل سورية: التنمويون وهم الذين لا يملكون أدنى حد من السلطة، وهؤلاء كانوا مجموعة من الخبراء الذين سعوا لوضع خطة تنموية تسهم في رفع التنمية البشرية مع ارتفاع معدلات النمو الاقتصادية. والمحافظون من الحرس القديم، وهم يفضلون بقاء شكل العلاقات والنظام كما كان زمان حافظ الأسد، وكان لهم جزء لا يستهان به من السلطة، والمتلبرلون، وهم مجموعة من رجال الأعمال المرتبطين مع ضباط من المخابرات والجيش، وعلى رأسهم ابن خال بشار الأسد رامي مخلوف، والذين سعوا لمصادرة الاقتصاد من خلال لبرلته، وكان لهم دور قوي في السلطة بدأ يتزايد يومًا بعد يوم، وتتزايد معه هوة الفرق بين الأغنياء والفقراء في سورية، وتصل معه معدلات الفقر إلى ما يزيد عن 35 بالمئة، من نسبة السكان في سورية، وتمكن هذا الجناح من السلطة بشكل مطلق، بعد سقطة اغتيال الحريري، وقد ترافق ذلك مع طفرة كبيرة في المال، نتيجة ارتفاع أسعار النفط في الخليج، والذين كانوا يلحون على الإسراع في إنتاج قوانين تساعدهم على ضخ تلك الأموال للاستثمار في سورية، وبدأت تلك القوانين تتالى دون النظر إلى مدى تأثيراتها السلبية على فئات المجتمع السوري من جهة، ودورة الإنتاج من جهة ثانية، وظهر في سورية مرة أخرى الشركات المساهمة والشركات القابضة، والتي ركزت في نشاطاتها على الاستثمارات السياحية والخدمية، في حين أهملت الصناعية والزراعية، وبدأت البطالة في سورية تتزايد بشكل أكبر وخاصة بين الأكاديميين، ولم ترتبط معدلات النمو بأي شكل من أشكال التنيمة البشرية.

دارت أحاديث شعبية كثيرة، في بداية وصول بشار الأسد للسلطة، عن رغبة “الرئيس الشاب” في جعل سورية كما هي دبي، المدينة التي باتت أسطورة عالمية، ولكن الأسد الصغير كان  يقصد تمامًا كما هي دبي، أي دولة تمتلك مظاهر التطور والحداثة تحت حكم العائلة، وليس بعيدًا عنها، وعدم ارتباط تلك المظاهر بتنمية بشرية تتناسب مع المستوى العالي من الحداثة التي يقدمها النمط العمراني والخدمي في دبي، والفرق الوحيد أن بشار الأسد لم يلتفت إلى أمرين رئيسين: الأول أنه كان يسعى إلى تحويل معظم السوريين إلى ما يشبه الوافدين “الآسيويين وعرب البلاد غير النفطية” في الإمارات، بينما الطبقة المحيطة به هي ما يمكن أن تشبه نمط المواطنين الأماراتيين، والثاني أن شكل العلاقات والتراث السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي التي بنى عليها آل مكتوم ونهيان وغيرهم سلطتهم الاستبدادية في الإمارات مختلف عن النمط الذي بناه حافظ الأسد، وبذلك لم يكن بشار الأسد لينجح في التحول، من نظام اقتصادي إلى آخر، مع بقاء التفرد بالسلطة، كان عليه إما أن يبدأ بإصلاح تنموي بالدرجة الأولى، ويعلم تمامًا أنه سيفضي إلى زوال حكمه كطاغية على البلاد، أو أن يستمر في نهج أبيه ومحاولته استنباط آليات جديدة تواجه التغيرات المجتمعية التي فرضتها الطفرة التكنولوجية في سورية، ولكن عندما قرر قرارًا مبنيًا على رغبة في تطوير سورية بالطريقة التي يراها مناسبة، على اعتبار أنها مؤسسة تابعة له، ضرب شكل التوازن في العلاقات التي بُني عليها استبداد عائلة الأسد، وانتقل من الاستبداد المهيمن إلى الاستبداد الهش.

لم يكن بشار الأسد مبدع فكرة لبرلة الاستبداد، بل كانت رغبة أبيه من قبله، ولكن ضمن رؤيته في تشكيل توازنات جديدة بعد انتفاضة الثماينيات، وشجعه عليها حماس ميخائيل غراباتشوف للبيروسترويكا، في زيارة قام بها الأسد في بداية استلام الزعيم الروسي الحكم، وأبعده عنها أيضًا الإنهاك البادي على غورباتشوف، في زيارة أخرى قبيل الانهيار الكبير، إذ سأل غورباتشوف الأسد الأب عن كيفية قدرته الحفاظ على سلطته، وأيقن الأسد أن اللبرلة لا تتناسب مع طغيانه، وأنهى الأمر. أما بشار الأسد، فإنه فتح الباب واسعًا أمام الاستبداد الهش، ليحل محل الاستبداد المهيمن، ولينهي مرحلة حكم عائلة الأسد لسورية. ومن المعلوم أن نهاية الاستبداد الهش تقود إلى نتائج كارثية أكثر منها في حالة الاستبداد المهيمن؛ بسبب تفكك كل البنى الاجتماعية والاقتصادية في مرحلة الاستبداد الهش.

المراجع

باروت، جمال. العقد الأخير في سورية، جدلية الجمود والإصلاح. الدوحة. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. 2012. عبد الوهاب يحيى، لطفي. اليونان، مقدمة في التاريخ الحضاري. الاسكندرية. دار المعرفة الجامعية. 1991. بطاطو، حنا. فلاحو سورية، أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأنًا وسياساتهم. ترجمة عبد الله فاضل، رائد النقشبندي. بيروت. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. 2014.
رعد أطلي


المصدر
جيرون